«ولقد كرمنا بني آدم»..

آية كريمة يضرب بها كثيرون عرض الحائط، وهم يستغلون جوع الجائع، وحاجة المحتاج، فيقدمون له المساعدة لكنهم يفعلون مصطحبين معهم عدسات جوالاتهم وفلاشاتها، فيصورون أنفسهم وهم يقدمون له العطاء، وينشرون ما صوروه على مواقع التواصل، فلا يبقون له كرامة، ولا يحفظون عليه إنسانيته، ويبرر بعضهم فعلته بأنها تأتي من باب تحفيز الآخرين على العطاء، أو من باب توثيق التبرع وتأكيد مصداقية إيصاله لمحتاجه.

ثمة ذل يرتسم في عيون ذاك المسن الضعيف، وتلك المرأة العاجزة، وذاك الطفل اليتيم، وهذا الفقير المحتاج، وتلك الأرملة اليائسة، وهم يضطرون لتلقي حاجاتهم أمام عدسات من يتفاخر بأنه قدم لهم أبسط الضروريات، وأحيانا أقلها، طالبا بثمنها زيادة عدد متابعيه، وممارسا تباهيا وتفاخراً، يثير كثيراً من الأسئلة:

ـ ترى ما الذي يحرض أولئك على تصوير عطائهم ونشر مقاطعهم؟

ـ هل يبتغون منها مزيدا من الشهرة واستقطاب الأضواء؟

ـ هل يريدون منها التباهي بأن عطاءهم فاق غيرهم؟

ـ ما ذنب هؤلاء المحتاجين حتى يتم التشهير بحاجتهم؟

ذل السؤال

قال الله تعالى في محكم التنزيل «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى».

وفي الحديث النبوي «سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه»، وذكر فيهم، و»رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

ومن هنا يرى كثيرون أن فعل هؤلاء يخالف ما قرره القرآن وجاءت به السنة، لأنهم استغلوا حاجة المحتاج، ووظفوها إعلاميا وصولاً إلى الشهرة، في تصرف يوصف بأنه غير لائق بكرامة الإنسان، لأنه يتاجر بأحوال الناس وخصوصيتهم، ويمارس عليهم استغلال الحاجة.

وحتى تبرير هؤلاء أو القلة منهم بأن تلك اللقطات قد تزيد من تقديم المساعدات وتحث على فعل الخير ينتقده آخرون، ويرون أنه في غير محله، لأن الحث لا يكون بالتقاط (سيلفي الذل) على حد تعبيرهم.

معاكسة الفطرة

يقول الأخصائي الاجتماعي والإرشاد النفسي حسين آل جليدان «ثمة أبعاد عدة لتقدم العون والمساعدة للغير، ومجتمعنا مجبول نفسيا على فطرة حب الخير ومساعدة الغير».

ويضيف «الحرص على التصوير عند تقديم المعونة للمحتاج، يحتمل أمرين:

ـ إما أنّ الهدف حب الخير وتحفيز وتشجيع البقية عليه.

ـ وإما ـ وهذا هو الجانب السيئ، وقد بدأ يطفو على السطح كثيراً في الآونة الأخيرة ـ أن البعض يبالغ بشكل ممجوج في عرض الإحسان إلى المحتاجين بطرائق تثير الاشمئزاز، ويتم نشر حتى أصغر الأعمال بصورة تصيبك معها الدهشة والاستغراب، وتوحي بأنّ كل ذلك من أجل مدح الناس والظهور على نهج مدرسة شوفوني».

وتابع «يتعجب المرء من سِرّ هذا الإصرار على الشهرة والظهور على أكتاف هؤلاء المحتاجين»، لافتاً إلى أنّه عادة ما تكون التركيبة النفسية لهذه الحالة توحي بكثير من عشق لفت الأنظار «نرجسية»، حتى لو كان ذلك على حساب الجانب الديني».

الإساءة للإنسانية

ترى الأخصائية النفسية نيفين سامي، أن هذه المقاطع والصور التي تظهر فيها حاجة الفقير وتزيّن صورة المحسن في نظر المجتمع تؤثر على نفس المحتاج.

وقالت «تحت وطأة الحاجة يكون المحتاج مضطرا لقبول تصويره للحصول على الإعانة والمساعدة، لكن ذلك يقوده مع الوقت إلى أن يصبح خجولا للغاية، ومنسحباً اجتماعياً لا، مظهره أو حاجته باتت مع تصويره ونشر المقطع الذي تم تصويره فيه علنية، وبات يراها في عين كل من يراه، وهو يشعر بالحزن حتما جراء تعرض إنسانيته للإساءة والذل».

وأضافت «انسحابه يؤثر على نفسه، وقد تضطرب وتتأثر صورته وعلاقته مع أهله وذويه».

الإخفاء أفضل

يوضح عضو الدعوة بالشؤون الإسلامية، إمام وخطيب جامع الجميح بمنطقة نجران الشيخ حسن الجليل «يقول الله تعالى في كتابه العزيز «إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم»، وبالتالي ولهذه الآية الكريمة رقم 271 في سورة البقرة، فإن موضوع الإخفاء أفضل في الشرع من الإظهار، خصوصاً إذا كان في الإظهار إحراج لليتيم أو المسكين أو الفقير أو الأرملة، وأجر الصدقة يكون أكبر عند الإخفاء، وكذلك حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، فلذلك أوصي إخواني التجار والمحسنين بأن يخفوا صدقاتهم ويعطوها المستحقين، فبإذن الله أجرها أكبر، وليس فيها إحراج للمحتاج».

جريمة التشهير

رداً على تساؤلات تتعلق بكون مسألة تصوير المحتاج المضطر، ونشر تلقيه للمعونة قد يرقى إلى أن يكون جريمة إلكترونية أو تعدٍ على خصوصياته، حتى لو كان التصوير تم بموافقته التي جاءت تحت ضغط احتياجه، وليس بكامل إرادته الحرة، يقول المستشار القانوني مانع مصلح آل عباس «قانونيا إن تم التصوير والنشر بموافقة صاحب الشأن وبإرادته المنفردة، ودون أي ضغط أو إكراه، فلا نكون هنا أمام جريمة إلكترونية أو حالة تشهير على الإطلاق، أما إن كانت على خلاف ذلك فهذا أمر يُعاقب عليه أي شخص يقوم بالتصوير والنشر، ويحاسب عليه في حال تقدم المتضرر بشكواه أو إنابة وكيل أو محام عنه ليترافع عنه، وهنا يدخل هذا التصوير والنشر في إطار الجرائم الإلكترونية والتشهير».

وينصح آل عباس بتجنب التصوير والنشر في كل الأحوال، ويقول «من يبحث عن الشهرة على حساب حاجة الناس وقلة حيلتهم بتصويرهم وإذلالهم فإن ليس له من تصرفه أي أجر، وصدق الشاعر علي بن بقصه حين ‏قال:

ليتهم ماصوروني على قلّة دبار *** وأوجعوني جعله أمحق تكاتف وصدقة

الفقر ملعون صُلـّة وذل الناس عار *** ‏يالله بمدّة كريمٍ مَهيب موثّقة

المتاجرة بنشر الفقر

يتحسر المعلم سلمان محمد مهدي على حال المحتاج الذي يضطر لقبول المساعدة، ويضطر معها لقبول تصويره وهو يتسلمها، ويقول «الأمر أشبه بالانسلاخ من الآدمية أمام الكاميرات، فلا أذل عليه من أن تتم المتاجرة بنشر فقره وحاجته دون اعتبار لكرامته».

ويضيف «يشعر هؤلاء المحتاجون بالخجل والمهانة والدونية، لكنهم يضطرون للسكون وقبول تصويرهم تحت ضغط حاجتهم لما يقدم لهم، وتبعا لدراسات السلوك الإنساني فإنه مع مرور الزمن، وتكرار المساعدات، يصبح هؤلاء معتادين على ذلك».

ويعلق على مبررات البعض من الجمعيات أو الممثلين لجهات أو أشخاص بعينهم، وأنهم يضطرون للتصوير توثيقا وتأكيداً على أنهم سلموا المعونة للمحتاج، أو حتى لتشجيع الآخرين وتحفيزهم بقوله «بعض المؤسسات تجد نفسها مضطرة لتوثيق العمل كإثبات للممول، ومن أجل استمرارية مشروعها، وذلك كون الصورة تشجع متبرعا آخر على التبرع، وتقديم المشاريع إلى الجمعية ذاتها، ولكن مع كل هذه المبررات التي تبدو في الظاهر منطقية أو معقولة، إلا أنني أرى أن الإنسانية أهم من كل تلك المبررات».

ويكمل «لمنع هذه الحالات، وللحيلولة دون تحولها إلى ظاهرة، لا بد من منع تصوير الأشخاص على هذه الهيئة إطلاقاً، وفرض عقوبات تصل حتى السجن والغرامات المادية، وكذلك إيقاف حسابات المصور في مواقع التواصل الاجتماعي».

يد تساعد خير من عين تشاهد

يرى علي عبدالكريم الكستبان، أن الأصل تكافل المسلمين فيما بينهم بحفظ ماء وجه المحتاج، وقال «فهم حث الرسول على ألا تعلم شمالنا ما أنفقت يمنانا، يؤكد أهمية إعفاء الناس من مواطن الحرج، فتجنب تصوير الفقراء والمحتاجين أثناء تسليمهم المساعدات المالية وحتى العينية أفضل بالنسبة لهم لحفظ كرامتهم، ونشر صور الفقراء بأي شكل فيه انتهاك لكرامتهم كبشر، وإعطاؤهم صدقات على هذه الصورة لا يخرج عن كونها صدقات يتبعها أذى، ومن يدري فقد تكون الأضواء الإعلامية للمتصدق نارا تحرق كرامة الفقير، وشتان بين إطفاء نار الجوع وإشعال الأسى في النفوس المحتاجة.

تحطيم الكرامة

يشير هادي حسين آل غفينه إلى أن «الإعانة حق للمحتاج سواء أكانت مالية أو عينية أو طبية وتوظيفها إعلاميا وصولا إلى الشهرة تصرف غير أخلاقي، ولا يليق بكرامة الإنسان، وإن كانت هناك حاجة لإثبات ذلك إبراء للذمة أو مستندا يقدم للجهة فيكون ذلك بالتوقيع، وإن وجدت حاجة للتصوير فتحفظ الصور في الملفات ولا تفضح العائلة وتحطم كرامتها بالنشر عبر مواقع التواصل المفتوحة للعامة، فالكرامة حق للإنسان لا تسقطه الحاجة فالتقاط هذه الصور لأولئك المساكين ونشرها بين الناس مع انتفاء الحاجة الشرعية لذلك قد يكون فيه أذى بليغ لهم.

بدوره، يرى عبدالرحمن الجليل أن هذه الحالات انتشرت بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي، ويرى أن فيها كسرا لقلوبهم، لأن أكثر من يصورهم هم المشاهير، فيما المحتاج يكون مضطرا، والنفس لا تطيق إظهارها بمظهر الضعيف».

ويكمل «لا يظهر المشاهير في مثل تلك اللقطات إلا وهم في أبهى حللهم، وهم لا يقبلون أن يصورهم غيرهم إلا في حال كونهم بحالة لائقة تماما، لكنهم مع ذلك يصورون المحتاجين وينشرون حاجتهم على الملأ دون مراعاة لرغباتهم وإنسانيتهم».