ما يزال مشهد سقوط جدار برلين الذي بدأ في يونيو 1990 ماثلاً في الأذهان برمزيته التي استحقها بجدارة، فقد كان أسخن مقطع تماس بين المعسكرين الغربي والشرقي، وكان فاصلا يشي بكثير من الترقب والتحسب والتخوف.

لكن هذا المشهد الذي يحتفل العالم بذكراه سنويا، ويستعيد قصة تدفق عشرات الآلاف من ألمانيا الشرقية نحو ألمانيا الغربية عبره، والذي أفضى لاحقا إلى توحيد الألمانيتين، يعيد اليوم تركيبته على نحو مخالف، إذ تؤكد الصراعات الحالية أننا أمام حرب باردة جديدة، ربما تبني جُدُراً جديدة على شاكلة جدار برلين، حتى وإن لم تكن جُدُراً واقعية، لكنها جدران محسوسة ولها حساباتها السياسية والإيديولوجية.

أطراف الصراع


تحاول أمريكا العودة للعب دور القطب الأوحد في العالم، فيما تسعى روسيا لاستعادة مجدها كقطب ثانٍ، ما بينهما تبدو أوروبا والصين مقبلتين على أدوار تذكي تلك الحرب، التي حذر منها الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريس بقوله «يجب علينا أن نفعل كل شيء لتجنب حرب باردة جديدة».

ثمة أحداث توحي بأن هناك جدار برلين للقرن الـ21، وتخلق الانقسامات المتزايدة بين روسيا والغرب فرصة لا رجعة فيها لقيامه، فثمة انقسامات عسكرية ـ رغم اندفاعها نحو الشرق خلال العقود الثلاثة الماضية ـ بين دول الناتو ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي الروسية (تشمل بشكل مهم بيلاروسيا الهجينة المستهدفة للحرب)، كما أن هناك انقسامات إيديولوجية واقتصادية أقل وضوحا.

تؤمن روسيا بشدة بالحفاظ على سيادتها الجيوسياسية والاجتماعية السياسية المحلية، لذا فهي تتبع مسارًا أكثر تحفظا، في حين تخضع الدول الغربية في الغالب لسلطة أمريكا.

نهاية التقارب

فشلت العلاقات الروسية الغربية في تحقيق «التقارب الكبير» الذي كان يأمل فيه رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق جورباتشوف، والسبب أن أمريكا أرادت فرض إرادتها على روسيا من خلال معاملتها على أنها مجرد دولة تابعة أخرى بدلاً من احترامها كشريك متساوٍ. كانت هذه السياسة في الواقع ناجحة بشكل مدهش طوال التسعينيات في عهد الرئيس السوفييتي بوريس يلتسين، لكن عيبها القاتل أنها ذهبت بسرعة كبيرة جدا بمحاولة حل الاتحاد الروسي من خلال الدعم الأمريكي لانفصال الشيشان، وهو ما أثار رد فعل وطني للغاية من الأعضاء المسؤولين في البيروقراطيات العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية الروسية («الدولة العميقة»)، الذين عملوا معا لضمان بقاء وطنهم الأم في مواجهة هذه الأزمة الوجودية، وكانت النتيجة النهائية أن بوتين خلف يلتسين وشرع في إنقاذ روسيا بشكل منهجي.

نموذج روسي

كان بوتين دائما ليبراليا، لم يفقد أبدا تقديره للحضارة الغربية وأراد بصدق أن يكمل «التقارب الكبير» الذي كان يأمله جورباتشوف، ولكن على قدم المساواة فقط، باعتباره تابعًا لأمريكا.

وفشلت جهود بوتين لنقل «التقارب الكبير» إلى خطوته المنطقية التالية المتمثلة في أوروبا، وبعد ذلك تم شن حملة حرب إعلامية مكثفة لتصوير روسيا على أنها «دولة يمينية راديكالية»، وذلك لمنع الجماهير الأوروبية المتلقنة من الاعتراض على وجود بديل «معتدل» يحافظون بموجبه على سيادتهم المحلية والدولية، على الرغم من بقائهم ملتزمين بالقيم الليبرالية التقليدية، تماما مثل «النموذج الروسي»، وكان هذا يشكل تهديداً خطيراً للمصالح الإستراتيجية الأمريكية، ولذا شنت الحملة ضد روسيا.

صعود المنافس

مع مرور الوقت، تم تكرار «النموذج الروسي» جزئيًا في بعض دول أوروبا الوسطى مثل بولندا، وحتى داخل أمريكا نفسها من خلال انتخاب ترمب، على الرغم من أن هذا لم يكن بسبب ما يسمى بـ«التدخل الروسي»، ولكن كانت نتيجة طبيعية للتفاعل الأيديولوجي بين الليبراليين الراديكاليين و«المعتدلين».

كان ثمة صراع بين رغبة الروس في استعادة مجدهم والإبقاء على بلدهم بشكل المستقبل غير التابع وبين رغبة أمريكا في جعلها تابعةً، وأدى هذا الصراع إلى أن تصبح روسيا قطب نفوذ بديل داخل «الغرب الأكبر»، تنافس أمريكا.

إستراتيجية مناهضة

صارت الحرب الباردة الجديدة حتمية، فالقادة الأمريكيون لديهم كل الأسباب للخوف من روسيا لأنها تتحدى الهيمنة الأمريكية أحادية القطب في أوروبا، ولذا رغبوا في تصوير روسيا على أنها خارج «عائلة الدول الغربية»، وما يزال ترمب الذي يستمر في استفزازه البارز ضد الصين، يتنافس بشكل أساسي مع روسيا من أجل قيادة النموذج الليبرالي «المعتدل» للحضارة الغربية. ومن هنا يمكن فهم رغبة أمريكا في بناء «جدار جديد» في أوروبا من خلال «فصل» رعاياها في الناتو عن روسيا من خلال سلسلة من الحروب الهجينة، وهذا يعني أنه في حين أن الفصل المادي بين روسيا وأوروبا على طول الخطوط العسكرية والجيوسياسية، وربما حتى الاقتصاد والطاقة قريبا، هو أمر واقع عمليا في هذه المرحلة، فإن التأثير الأيديولوجي - البنيوي الناشئ عن موسكو من المستحيل «احتواؤه».

لا يوجد «جدار» سيعكس التأثير الذي أحدثه «النموذج الروسي» على مسار الحضارة الغربية، ولكنه أسلوب بقاء مرتجل تم إطلاقه ردا على عدوان القوة الناعمة الأمريكية أحادية القطب الكونية على روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. إنها ليست «روسية» بشكل واضح، وهذا هو السبب في أن النخبة الغربية الليبرالية المفرطة تخشاها كثيرًا لأنها تعرف جيدًا أنها قد تتجذر في بلدانهم أيضًا، تمامًا كما هو الحال في بولندا وأمريكا.

أسباب الحرب الباردة

رغبة أمريكا في الإبقاء على قيادتها وحيدة القطب للعالم

خشية أمريكية من اتباع أوروبا للنهج الروسي القائم على الاستقلالية

حرص أمريكي على تصوير روسيا كأنها خارج عائلة الدول الغربية

رفض روسيا أن تكون علاقاتها مع أمريكا علاقة تابع بمتبوع

سعي روسي للتقارب الكبير مع الغرب، والذي ترفضه أمريكا