كانت الدكتورة ليندا باك تعيش أياما عصيبة في شقتها بنيويورك في منتصف الثمانينات. لم تقنع اقتراحاتها البحثية مشرفها في أبحاث ما بعد الدكتوراه، البروفيسور ريتشارد أكسل، في جامعة كولومبيا. فكلما تقدمت بمشروع بحثي جديد رفضه بذريعة عدم جدارته بالتقصي والبحث. كانت تفكر جديا في الرحيل عن مركز الأبحاث الذي التحقت به والتقديم على وظيفة محاضرة في إحدى الجامعات. لكن، وأثناء بحثها عن رقم زميلها في إحدى الجامعات الأميركية، الذي تتذكر أنها دونته خلف إحدى الأوراق العلمية، وجدت مقالة استوقفتها. كانت المقالة تتحدث عن قدرة البشر والثدييات بشكل عام على التمييز بين أكثر من 10 آلاف رائحة مختلفة. اعتراها الفضول تجاه هذه المعلومة والمقالة التي صدرت عام 1985 عن طريق مجموعة سول سنايدر البحثية في علوم الأعصاب. نسيت ليندا رقم الهاتف الذي كانت تبحث عنه. وعلق في ذاكرتها رقم واحد وهو 10 آلاف، الذي اقترن بالروائح التي يتمكن الأنف من التمييز بينها. هذه المعلومة الصغيرة التي تصفحتها الدكتورة ليندا غيرت مجرى حياتها للأبد. انكبت منذ ذلك اليوم على سبر أغوارها. ركزت في مجال أبحاثها في الجهاز العصبي على كيفية التقاط الأنف للفيرومونات (كيماويات تتركب من جزيئات عضوية معقدة)، والروائح المختلفة، وكيفية إدراكها وتفسيرها بواسطة المخ. وقد لاقى هذا البحث قبولا كبيرا لدى مشرفها ريتشارد، الذي تعاون معها في هذا المشروع.

توصلت ليندا وريتشارد إثر هذا التعاون في هذا البحث إلى اكتشافات علمية عظيمة في مجال المستقبلات الشمية ووظائف الجهاز الشمي وتنظيمها أدت إلى حصولهما معا على جائزة نوبل في الطب عام 2004.

استفز سطر واحد من مقالة علمية الدكتورة ليندا لإيجاد إجابات جوهرية خدمت البشرية وأسفرت عن حلول للعديد من المشاكل، التي تواجه وظائف الجهاز الشمي المعقد.

حازت ليندا باك على جائزة نوبل بفضل سطر واحد قرأته وألهمها. منحها هذا السطر النصر. هناك الكثير من الانتصارات التي أهدرناها. انتصارات تتوافر في جملة أو عبارة أو معلومة.

إن هذه المقالة المنسية التي أشعلت السعادة في حياة الدكتورة ليندا دعوة لننفض الغبار عن الكتب والمقالات، التي نكتنزها على أرفف مكتباتنا أو في مفضلات أجهزتنا أو التي قرأناها على عجل دون تفكر وتمعن واختبار. ثمة كنوز مدفونة في بطون الكتب والمقالات تحتاج فقط لمن يشتغل عليها لتشتعل وتضيء. اكتشف فلمنج عقار البنسلين من عفن الخبز، واكتشف فولتا غاز الميثان من المستنقعات. نستطيع أن نعثر على الجمال في أشياء غير متوقعة. فكيف في الكتب؟ لا ينبغي أن نتفق أو نختلف مع ما نقرأ، بيد أنه من الأفضل أن نختبر ما نقرأ ونتفحصه لعلنا نجد فيه ما يلهمنا ويشعلنا. يقول أرنولد توينبي: "ليس العبرة في كثرة القراءة، بل في القراءة المجدية". استوقفتني عبارة اختتم بها الدكتور أوتو كلينبيرج، الأستاذ في جامعة كولومبيا تقديمه لكتاب غوستاف لوبون: سيكولوجية الجماهير، يقول فيها: "اقرؤوا هذا الكتاب بروح نقدية، ولكن اقرؤوه".

علينا أن نمرن أنفسنا على القراءة النقدية لأنها ستمنحنا مساحة عظيمة لاستخراج الجمال من النصوص بعد تحليلها وتشريحها وتكريرها. إن أغلى المنتجات هي التي تحتاج للاستكشاف والتكرير والمعالجة قبل الظفر بها.

يدين البليونير، وران بافيت، أكبر مستثمر في البورصة الأميركية، بالفضل لكتاب: المستثمر الذكي، لبنيامين جراهام، في نجاحه المبكر في البورصة عبر اسثماره لبعض الاقتراحات التي أوردها جراهام. لكن في نفس الوقت يرى بافيت أن جراهام وقع في أخطاء عدة في نفس الكتاب. لا يوجد كتاب عظيم تماما. لكن يوجد قارئ عظيم يستطيع استكشاف الجمال.

(السطور) في الكتب والمقالات بوسعها أن تصبح (جسور) تقلك إلى النجاح أو (صخور) توقفك وتثبط عزيمتك. لكن أنت وحدك من يستطيع الاختيار.