الثابت والمتغير 2/1

منذ انطلاق المملكة العربية السعودية كيانا موحدا في ١٣٥١ هجرية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - بدأت رحلة التغير الاجتماعي الكبير لهذا المجتمع العربي الأصيل، الذي مثّل بُعد الثقافة العربية والإسلامية المرتبطة بالأرض والوطن والإسلام، وكل ما يتصل بتلك الثقافة من أخلاق نبيلة مثل حماية المستجير وإكرام الضيف والوفاء بالعهد ونجدة المستغيث والتمسك القوي بمنهج الإسلام، وغيرها من السمات التي مثلت رمزية أساسية لكل ما هو عربي وإسلامي أصيل طوال القرون الماضية، ذلك لأن المملكة العربية السعودية هي وارثة كل تلك السمات العربية والإسلامية، حيث إن نسيجها الاجتماعي يعد المادة الأولى للشعوب العربية التي حملت الثقافة العربية والإسلامية إلى كل العالم عبر أجيال متتابعة، لذا فقد بات هذا المجتمع مقياسا وأنموذجا ورمزا لكل ما يمثل هذه الثقافة، وما تعنيه هذه الرمزية الأصيلة لجميع المراقبين والباحثين في الشأن العربي والإسلامي.

إن المملكة، قيادة وشعبا، وهي تدرك ذلك، فإنها تنطلق من مسؤولياتها تجاه كل ذلك الإرث وتلك القيمة التاريخية، حفاظا وأصالة واعتزازا بكل تلك القيم، فإنها تدرك، في الوقت نفسه، أن هناك متغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية تتشاركها مع ثقافات وحضارات ودول العالم المعاصر، تحتم ضرورة التفاعل البنّاء مع الجميع في جو من التفهم لخصوصية كل ثقافة، ومعرفة مساحات الالتقاء مع الجميع دون أن يضطر أحد للذوبان في الآخر بل الاحترام والتعايش، والالتزام بدعم القضايا الإنسانية التي تؤكد كرامة البشر في كل المواثيق والقوانين الدولية. إننا، ومن خلال الاطلاع على حجم التغيرات الكبيرة في المجتمع السعودي عبر تسعين عاما من البناء والتطوير منذ توحيد هذا الكيان، ندرك اتساع حجم التفاصيل الكبيرة التي طالها التغيير في حياة الناس، في الاتصال والنقل والتعليم والثقافة والإعلام والصحة، وجميع صور حياة التمدن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وما تحتاجه كل تلك الجوانب من متطلبات العيش، مما جعل من الصعوبة بمكان ملاحقة وتيرة تلك التغيرات أو رصدها إلا عبر الدراسات التراكمية الطويلة والمتأنية التي يجريها الباحثون والدارسون في علوم المجتمعات.

ومع ذلك، فحالة التجديد الهائلة في كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها المملكة لم تجعلها تَنْبَت من تاريخها وتراثها وقيمها بل بقيت موطن الأصالة الكبير الذي يعنون كل مراحل التغيير بذلك السمو، الذي بقي سمة للماضي والحاضر والمستقبل، مصطحبا معه تلك المرونة التي تجعل مرجعية الجميع تجاه الأمور تأتي عبر معيار الصواب والجمال والقدرة على التناغم مع مستجدات الحياة دون انكفاء على الذات أو الانزلاق بعيدا عن ثقافتنا وعروبتنا وديننا الذي يتسم بالعالمية، والقدرة على استيعاب متغيرات الحياة الاجتماعية دون فقد الهوية أو الانسلاخ بعيدا عن كل ما يربطنا بتلك الهوية التي تُعرفنا في كل مفترقات الطرق التي تجمعنا بالآخرين بكل بهاء وجمال.

إن ثقتنا في أنفسنا تجعلنا نتقدم دون عقد نقص يمكن لها أن تكبح سرعة التغيير الهادف، الذي يضيف وينمي ويحسّن كل جوانب الحياة التي نعشقها كما أرادها الله عنوانا للفضائل وجسرا جميلا نحو الإنجاز والإعمار، وهو أمرٌ بقيت المملكة العربية السعودية تتعامل معه كقيمة وهدف عبر عقودها التسعين التي توجت مسيرة الإنسان على هذه الأرض منذ آلاف السنين، وما زالت الحكاية تزيد كل يوم فصلا من فصول هذه الرواية الأجمل في العصر الحديث.