يمكن القول إن البعض من المهووسين بالحضارة الغربية المعاصرة، من الكتاب والمثقفين، يبدو منغمسا في أفكارها، وغارقا بفلسفتها إلى الأذقان، ومن ثم فهم يجنحون إلى اعتماد آلياتها، واستخدام معاييرها الأكاديمية في تناول حقيقة الإسلام والقرآن الكريم بشكل خاص، والمعرفة العربية الإسلامية بشكل عام، في إطار سعيهم المحموم لعقلنة ثوابت المعرفة الإسلامية بتعسف، وصولا إلى أنسنة النصوص القرآنية، من خلال نزع القدسية عنها، والتشكيك في تعاليها بمزاعم غياب العقل الناقد، والعقل المنفتح عن ساحة التجديد الراهنة، والنهوض والإصلاح.

ومع أن راهن الحال المعرفي العربي المسلم ما زال يعاني إرهاصات الغياب الطويل عن ساحة العطاء والتأثير، ويحتاج إلى مواكبة جادة لحركة معطيات العصر، وإعادة تقييم وتناول لتجاوز المعوقات، إلا أن ثوابت المعرفة العربية الإسلامية، ومنها بالذات وضع الإسلام كدين، لا يمكن إخضاعها لدراسات تفكيكية، ومماحكات فلسفية مجردة أبدا، لأن من يجيد «لغة الضاد»، ويتقن تناول مناهج المعرفة العربية الإسلامية يستوعب يقينا، أو يقترب على الأقل، من مراداتها العلمية والدينية على حقيقتها بيسر وسهولة، ودونما حاجة للإيغال في تأويليات مغرضة، تبتغي التشويه وتسهدف التقويض.

ومن هنا، فإن توظيف أولئك المهووسين التأويليات التفكيكية في تناول مباديء الإسلام ونصوص القرآن، واعتمادهم هذه الأدوات في الحفر والتنقيب في متن تلك النصوص والمسلمات العقدية، إنما يعكس الإصرار على استخدام آليات غريبة عنها، تستهدف في نهاية المطاف هدم الدين، وأنسنة نصوص القرآن بدعاوى متهافتة، وإن بدت للدارسين في ظاهرها معايير أكاديمية محضة، في حين أن الموضوعية العلمية تقتضي أن يتم تناول المعرفة الإسلامية بمعاييرها الأصلية ومناهجها المعتمدة، مثلما أنه لا يصح أيضا تناول الطب والرياضيات والهندسة، وغيرها من العلوم البحتة المعاصرة إلا بمعاييرها المعتمدة.

إن الانفتاح على معطيات العصرنة يتطلب التفاعل البناء معها، وهضم كل ما هو إيجابي ومتناغم منها مع حقائق الدين، ورفض ما هو سلبي منها، ويعمل على استلاب الأصالة، وتشويه الهوية في الوقت نفسه، وذلك من خلال الإلمام التام بدوافع الهيمنة الثقافية، والإحاطة الكاملة الواعية بمخططاتها، ولعل الكثير من المختصين أعرف، بحكم خبراتهم الزاخرة، بكل تلك الألغام التي وقع في شراكها الكثير من مثقفينا.

ولذلك، فإن النهوض بالحال المعرفي المنهك، والسعي الحثيث لتفجير الطاقات الكامنة في الأمة يتطلب الانفتاح بوعي مسؤول على معطيات العصر، والتشبث بالأصالة الدينية والاجتماعية والتراثية في الوقت نفسه، دون انخراط مفتوح بلا نهايات يؤدي في نهاية المطاف إلى الانصهار التام في بوتقة العصرنة الصاخبة، ويمسخ بالاستلاب أصالة هوية الموروث المعرفي، ويلغي زخم الإطراد، والعودة بفعالية إلى ساحة التأثير والعطاء والإبداع الحضاري، كما كان عليه الحال المتألق في الصفحات المشرقة للحضارة العربية الإسلامية، التي وضعت الحجر الأساس للحضارة الإنسانية المعاصرة في كثير من المجالات.