إذا نظرنا إلى حال الأمة العربية، ووضعها في أي مجال من مجالات الحياة، سواء في الزراعة أو الصناعة أو الرياضة، أو التقنية أو المجال الفكري، وجدنا أن المجال الوحيد للبروز و«الإبداع» هو الغناء والرقص. ومن المفارقات الطريفة، وإن كانت مؤلمة، أن آلام الأمة العربية تسير مع الغناء في ظل علاقة طردية، بمعنى أنه كلما زادت آلامها ومشاكلها زادت موجة الغناء والرقص، حتى آمن الجميع أن هذه الأمة لا تجيد سوى الغناء والرقص، وحتى لا نتهم بالتشاؤم لننظر في تفصيلات بعض الموضوعات.

المجال الزراعي على سبيل المثال، الأمة العربية الوحيدة التي لاتزرع ما تأكل، على الرغم من وفرة الأراضي الزراعية، ورخص اليد العاملة والمناخ المناسب. وحين يتحدث العرب عن الأمن الغذائي تجد الدراسات تتخذ سبيلا مغايرا لما يحدث على أرض الواقع، فالأمن الغذائي عند العرب ليس في زراعة النخيل للحصول على التمر، بل في تربية الدجاج للحصول على البيض! والقياس على ذلك كثير، حتى أصبح العرب عالة على الغرب في بقائهم المعيشي، ومع ذلك لا يملون من الحديث عن الأمن الغذائي، وهم يزرعون الفراولة.

المياه .. الحرب القادمة في الشرق الأوسط، هذا ما نقرؤه في الكتب والصحافة، ومن أجله تعقد المؤتمرات، وجميع الدول العربية تسعى وبشكل محموم، لاستنفاد مخزونها المائي لتبيعه في عبوات بلاستيكية!

نتحدث عن الصناعة، فالواقع أن ما لدينا سوى تركيب قطع لآلات نستوردها، أو تصنيع تابع للماركات أو العلامات التجارية الشهيرة من ملابس وأحذية، وحتى هذه الأمور لا نجيدها للأسف الشديد، إذا ما قورنت بصناعة سنغافورة أو تايوان. وعلى الرغم من رخص الأيدي العاملة العربية، وتوافر المواد الخام، إلا أن الصناعة في العالم العربي، إن وجدت، فهي ليست سوى عملية تصنيع تابع، ينعدم فيه الإبداع والجودة والقدرة على المنافسة. فضلا عن أن هذه الصناعات لا يمكن لها أن تقف على قدميها بقوتها الذاتية، فهي لاتستطيع الاستغناء عن الدعم الحكومي، ولا عن الخبرات الأجنبية، وفي الدول الخليجية لا يمكن لآلات المصانع أن تدور لولا رخص العاملة الآسيوية.

على المستوى الفكري لا توجد سوى الكارثة. فأمة العرب تعاني التخلف في كل زاوية من زوايا هذا الوضع. التعليم الجامعي متدهور، والبحث الأكاديمي، سواء كان نظريا أو عمليا، لا يحتل سوى نسبة بسيطة من مجمل الإنفاق العام، والأبحاث التطبيقية لا تجد لها أثرا في الحياة العملية، والأبحاث النظرية في معظمها لا تقدم شيئا للأمة، وإن قدمت حوربت من قبل البيروقراطية، ونسبة مبيعات الكتب كدليل على القراءة على المستوى العام، أمر يبعث على الخجل، والجهل العام الذي يظهر من بين ثنايا العرض العام للثقافة، أمر لا يمكن إخفاؤه وتجاهله، وقدم لاعب الكرة، وأصابع المطرب التي تمسك العود، تدر على صاحبها ما لا يستطيع أي باحث أكاديمي جاد تحصيله حتى سن التقاعد، دع عنك التقدير الرسمي والحفاوة، التي يحصل عليها المطرب أو لاعب الكرة، في مقابل الإهمال التام للطرف الآخر. أما المؤتمرات العلمية والنظرية، فلسيت سوى ديكور تزين، ثم توضع الدراسات على الرف ليعلوها الغبار، ثم لتضاف إليها دراسات أخرى، ولا يستفيد سوى العالقين على جسد البيروقراطية، من خلال التمتع بالإقامة في أفخم الفنادق وحفلات الاستقبال.

المجال الوحيد الذي تتوافر فيه حرية البحث، هو الكتابة المائعة، أو المادحة للتقاليد أو اجترار التراث، والتاريخ بحوادثه وشخوصه بالصورة اللاعقلانية، التي تنطبع في الذهنية العربية. هذا النوع من الكتابة التي لا تضر ولا تنفع، بل إن العلم بها لاينفع والجهل بها لا يضر، وهي التي تساندها البيروقراطية، وتحرص على نشرها بطباعة فاخرة، أما الدراسات النقدية الجادة فلا يلتفت إليها أحد، ويكون من حسن حظ كاتبها أن ينجو من تهمة الزندقة أو الردة، إذا كانت الدراسات تتعرض للتقاليد، ووصل بنا الأمر أن بتنا لا نستغني عن المؤلفات الصادرة عن الغرب، لمعرفة موضوعات تتصل بتراثنا وتاريخنا ومجتمعنا، وأننا ما عدنا نثق بما يكتبه الباحث العربي، إلا إذا كان معتمدا على مراجع ومصادر أجنبية.

المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، يعيش انحسارا ثقافيا وجفافا فكريا، والحالة الوحيدة التي يتوافر في ساحتها المد والرطوبة هي الطرب كالغناء والرقص.

في هذا الأمر نجد تسامحا، ومساندة فريدة من نوعها تقدمها البيروقراطية. وبالطبع يستتبع ذلك تشجيعا للمسرحيات الهابطة، والتي تشجع على انتشار السذاجة الفكرية، بل إن العالم العربي بشكل عام يخلو من المسرح الجاد.