ازدانت الرياض، السبت والأحد الماضيين، بمناسبة عقد قمة مجموعة دول العشرين على مستوى القادة في هذه الدورة المتميزة التي ترأستها المملكة.

استأثرت بلادنا خلال اليومين باهتمام الصحف ووكالات الأنباء ومواقع الإنترنت العالمية التي تبارت لنقل أخبارها، في تغطية مباشرة عكست للعالم أجمع الجهود التي بذلتها المملكة لإنجاح هذه الدورة الاستثنائية التي عقدت جميع قممها سواء على مستوى وزراء المالية والخارجية، أو على مستوى القادة افتراضيا؛ بسبب جائحة كورونا التي يعاني منها العالم في الوقت الحالي، والتي فرضت قيودا مشددة على حركة التنقل والسفر بين الدول.

بدءا ينبغي الإشارة إلى أن مجموعة العشرين تضم أكثر الدول المتطورة على مستوى الاقتصاد والتأثير السياسي في العالم، فهي تستأثر بما يتجاوز ثلثي حجم التجارة العالمية، وتنعم بعائدات %85 من حجم الاقتصاد العالمي، وتضم داخلها حوالي ثلاثة أرباع عدد السكان.

كما أن المجموعة تضم في عضويتها البنك الدولي. لذلك فإن القرارات التي تصدر عن قمم المجموعة تستمد أهمية كبرى لأنها تؤثر بصورة مباشرة على المشهد السياسي، وتمثل مرجعية أساسية لا غنى عنها لصناع القرار العالمي.

دخول السعودية في عضوية المجموعة كان لعوامل كثيرة في مقدمتها أنها تلعب دوراً قيادياً في تحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمي، وتعتبر من أهم مصادر المساعدة المالية والدعم للعديد من البلدان النامية. كما أنها من كبار المساهمين في احتياطيات صندوق النقد الدولي، إضافة إلى ارتفاع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، وارتفاع مستوى تصنيفها الائتماني إلى مستوى AA مع نظرة مستقبلية مستقرة. هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى عناصر أخرى متعددة - منها المكانة الروحية للمسلمين في كافة أنحاء الأرض - جعلت المملكة رقما لا يمكن تجاوزه عند رسم السياسات الاقتصادية للعالم.

منذ تسلم الرياض رئاسة الدورة الحالية للمجموعة، عملت على تحقيق الإضافة النوعية، وتحقيق إنجازات مؤثرة لتصبح علامات مضيئة في تاريخ الدورة، لأن المملكة بطبيعتها لا ترضى بمجرد المشاركة والحضور، بل يحرص قادتها على ترك بصمة إيجابية واضحة في كل عمل تشارك فيه.

تلك التوجهات سرعان ما اصطدمت بعقبة كبيرة تمثلت في ظهور فيروس كورونا (كوفيد19) الذي انتشر بين الدول انتشار النار في الهشيم، واقتضت مواجهته إغلاق المطارات وإلغاء التجمعات وتقييد حرية التنقل بين الدول. كذلك إلغاء الاجتماعات والفعاليات كافة.

ولأن قاموس السياسة السعودية لا يعرف مفردة الفشل، ومصطلح الإخفاق لا وجود له في الأجندة، فقد تم سريعا البحث عن حلول سريعة لتدارك الأمر، فكان اللجوء إلى خيار الاجتماعات الافتراضية، واستمرت كافة الأجهزة السعودية ذات الصلة في وضع الخطط والسياسات التي تقود إلى النجاح وتحقق التفوق.

ولأن الوباء مثَّل تهديدا مباشرا للوجود الإنساني، إضافة إلى آثاره السلبية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فقد تم إيلاء جهود مواجهته أهمية قصوى، فعقدت المجموعة قمة خاصة لبحث أساليب التصدي، وكيفية توحيد الجهود لإيجاد علاج ناجع يقهر الفيروس ويعيد الطمأنينة والهدوء. وتجاوبت كافة دول المجموعة مع الدعوة السعودية لتجاوز الخلافات في وجهات النظر، ورُصدت الأموال الطائلة لتحقيق هذا الهدف. وتم الاتفاق على أن الوباء الذي يهدد الجميع لا يمكن هزيمته إلا بتعاون الجميع، وتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات، وتنسيق الجهود العلمية الكفيلة باستئصال شره ودفع ضرره.

أبرز ما ركزت عليه المملكة خلال ترؤسها للدورة الحالية هو إدخال مضامين واهتمامات جديدة في قاموس دول المجموعة، وعدم تركيز الاهتمام على الجوانب الاقتصادية والتجارية فقط، كي لا تصبح مجرد ناد للأثرياء تجتمع فيه الدول ذات الدخل المرتفع.

لذلك طالبت بتعامل خاص مع الدول الفقيرة والنامية ومساعدتها على تجاوز آثار الأزمة، وإعفائها من مصاريف الديون، والعمل على تحقيق مبادئ التنمية المستدامة والمتوازنة التي تضمن توزيع الثروات بشكل عادل، لأن العالم أصبح قرية صغيرة، وتباطؤ النمو في أي بقعة منه لا شك يؤثر سلبا على البقية.

ونسبة للارتباط الوثيق بين القضايا البيئية والمجتمعية والاقتصادية، فقد اهتمت الدورة الحالية ببحث قضايا الاحتباس الحراري والمناخ، وكيفية الاتفاق على مبادئ عامة تضمن استمرار الحياة على هذا الكوكب الذي نتشارك جميعا العيش فيه.

تطرقت القمة كذلك إلى الهموم التي تؤرق الشباب، وعقدت قمة خاصة تناولت التصدي للتحديات التي تواجههم، وكيفية حل القضايا التي تعترض طريقهم باعتبارهم نصف الحاضر وكل المستقبل، والأسلوب الأمثل لتدريبهم وتمليكهم المهارات اللازمة لضمان مستقبل مشرق لهم. كما أولت المملكة بصفتها رئيس الدورة الحالية اهتماما كبيرا بقضية المرأة وتمكينها من الانطلاق والمساهمة في الازدهار الاقتصادي، وتحقيق التمييز الإيجابي الذي يمكنها من العمل في أجواء تناسب احتياجاتها وظروفها.

تم تسليط الضوء بصورة مكثفة كذلك على قضايا العمال وتعزيز مصالحهم والحفاظ على مكتسباتهم، والدفاع عن حقوقهم وتمكينهم. وتم الاهتمام كذلك بقضية المجتمع المدني وتطوير مؤسساته التي باتت هي صاحبة الدور الأكبر في الوقت الحالي، بوصفها المعبر الحقيقي عن صوت المجتمعات ونبض الشعوب لسرعتها في التحرك وسط فئات المجتمع كافة. إضافة إلى القضايا الفكرية وكيفية إحداث النهضة العلمية.

الدورة الحالية كانت بلا شك تجربة مضيئة وعلامة فارقة في تاريخ المجموعة، وهو ما أثبته قادة الدول الذين تباروا في توجيه الشكر للقيادة السعودية الحكيمة على ما بذلته من جهود، وما تحقق بحمد الله من نجاحات ستبقى نبراسا يهتدى به، وتبعث فخرا واعتزازا لكل سعودي، وبلادنا بحمد الله تسير بخطى حثيثة نحو تحقيق رؤيتها الطموحة وستكون نموذجا يحتذى، وطريقا يسير الآخرون عليه. وستبقى التوافقات التي تمت في الكثير من القضايا أساسا يتم البناء عليه، للوصول إلى الأهداف العليا حتى تسعد البشرية كافة بالحياة فوق سطح هذا الكوكب الذي تحدق به الأخطار من كل جانب.