مع رقصة الأطلس لـ«عبد القادر الراشدي» وقهوة سوداء مُرّة تستعيد معنى الحرية في ذهنك، تلك الحرية الحديثة الجديدة البديعة الخلاقة للعقول والمفاهيم والمواهب والملكات، والتي لا علاقة لها بالحرية القديمة الرديئة البدائية العاطلة المعطلة للعقول والمفاهيم والمواهب والملكات.

والسؤال: هل هناك حرية قديمة؟ قطعًا نعم، فالحرية القديمة لا تحمل أي مضمون سوى المقابل الموضوعي السطحي لمعنى العبد، بينما الحرية الحديثة تتضمن معنى جذريًا، كان له أثره العميق في الحضارة الإنسانية الحديثة، حيث أصبح معناها في ذاتها، ولا مقابل لها سوى اللاحرية إلى حد «تجريم الرق»، فما الفرق بين المعنى القديم للحرية، والمعنى الحديث الذي استدعى هذه المفارقة التاريخية، بين حرية قديمة ترتضي أن تبيع وتشتري في العبيد، وقد تعتقهم ليعيدوا إنتاج أنفسهم كأحرار يشتروا عبيدًا، أي يعيدون إنتاج معنى الحرية القديم الذي ينتج من جديد سلسلة السادة والعبيد.

الحرية الحديثة اختلفت في نظرتها الجذرية للإنسان، فتعاملت معه كمعنى «فرداني» مستقل، لا علاقة له بمصالح الجماعة، فجزء كبير من بقاء الرق عبر مئات السنين كان عائدًا في أصله إلى «مصلحة الجماعة» التي يستدمجها رجال الديانات في كل ملة، فيعتبرونها «مصلحة دينية» عبر ما أسموه «الطرق الشرعية» للرق، بينما الأمر في حقيقته لا يتجاوز «مصلحة الجماعة الدينية»، فلا مصلحة لأي دين في استرقاق البشر، بل هي مصالح دنيوية قد يسمونها «اجتهادًا» مصلحة دينية كتبرير للرق.

بينما الحرية الحديثة تضمنت معنى جذريًا يساعدنا في تفسير كثير من توجهات الأنظمة الغربية، التي يرى البعض أنها تتعارض مع الحرية كما يفهمها، وهذا المعنى الجذري للحرية الحديثة يجب أن يتضمن معنى «المساواة»، فلا حرية بلا مساواة، بل إذا نزع هذا المعنى «المساواة» من الحرية، فليس في نظر الحضارة الحديثة سوى إعادة إنتاج للعبودية تحت مبررات ثقافية «دينية، سياسية، اجتماعية... إلخ»، وعلى هذا ارتأت بعض الدول الأوروبية منع الحجاب والنقاب في بعض الأماكن، فهي تقبل مثلًا أن يوجب رجل الدين المسيحي على نفسه تغطية رأسه عندما يكون في الكنيسة، وللمرأة المسيحية نفس الحرية «المساواة» في أن تلبس غطاء على رأسها كراهبة في الكنيسة، ولكن الكنيسة حتى هذا التاريخ عاجزة عن ترسيم المرأة في مناصب كنسية عليا، فالكنيسة ضمنيًا

ما زالت ترى المرأة «حرة لكن بلا مساواة».

وعليه فإذا أراد المسلمون إقناع الغرب بأن حجاب المرأة أو نقابها «في كل الأماكن العامة» يعتبر من الحرية الدينية، فعليهم أن يقنعوا الغرب أن هذه الحرية تتضمن المساواة التي توجب على الرجل المسلم أيضًا لبس غطاء الرأس أو قناع الوجه، وعندها يكتمل مفهوم الحرية في نظر الحضارة الحديثة، وما عدا ذلك يعتبر إعادة إنتاج مفاهيم «السيد والعبد» تحت مبررات دينية، لمجموعة من «الذكور» يريدون إقناع مجموعة من «الإناث» بأن ما يسترهم شيء يختلف عما يستر «الذكور»، وهذا ما لا تستوعبه الحضارة الغربية خارج فضاء الكنيسة، بينما بالإمكان تمرير الحجاب والنقاب ( موضع خلاف بين العلماء) ضمن خطوط الموضة، بدلًا من تمريره باعتباره رمزية خاصة للمرأة كتوصيف جندري يهدف للوصاية من قبل نوع على نوع، وتعترض عليه الحضارة الحديثة ومفاهيمها للحرية.

بقول آخر: عندما ارتبطت الحرية الحديثة بالمعنى الجذري لها وهو «المساواة» حصل الانقلاب في التفكير الإنساني الحديث الذي استدعى تجريم الاتجار بالبشر، وبدون هذا المضمون العملي في المساواة، كانت أسواق النخاسة ستعج بكل أصناف البشر، ولهذا الشرط في الحرية «المساواة»

ما زالت أمريكا تعاني مع الأفروأمريكان؛ إذ يستشعرون هذا المعنى الحديث للحرية، فما زال في وجدان كثير من البيض دلالة الحرية القديمة المقابلة للعبد، والتي تظهر في فلتات لسان بعض البيض أو سلوكهم؛ ولهذا فالتطور الإنساني نحو الحرية الحديثة ليس سهلاً، بل يتم تقطيره عبر الزمن من خلال الأنظمة والنضال السلمي عبر الكلمة والموقف الإنساني الذي يزيد المجتمعات وعيًا، دون الدخول في لعبة سياسية تريد الصعود على أكتاف الوجع الإنساني لتهييج الغوغاء.

ختامًا: أي نقاش لمعنى الحرية دون تضمينه دلالة المساواة فهو معنى قديم يعيد إنتاج العبودية تحت مبررات حداثوية ليست حقيقية، فالحرية الحديثة شرطها المساواة، وأي دلالة للحرية تنتزع معنى المساواة من داخل هذه الحرية، فهي استعباد وإعادة إنتاج تقاليد بدائية بين «سيد وعبد» بمبررات لا تنتهي، وهذا النوع من الحرية الذي يتضمن المساواة هو الذي يثير استغراب كثير من سكان بلاد العالم الثالث، عندما يصل رجل أو امرأة مثلًا من أصول هندية أو أفريقية ودينه الإسلام إلى منصب سياسي أو قضائي في إحدى الدول الغربية، والأمثلة كثيرة، وما لا يريد فهمه بعض من ارتضى العيش في تلك البلاد أن الحرية التي تتضمن المساواة والتي استفاد منها في شراء كنيسة وتحويلها إلى مسجد لا يمكن تجزئتها، فيعترض عليها إذا تدخلت فيما تراه اتجار بالبشر لعاملة في منزله، بينما آخر فهمه للحقوق الإنسانية إصراره على أن تلفظ زوجته عليه يعتبر حرامًا وجريمة، بينما تهديده ووعيده وضربه لها مباح، ومعاقبته على ذلك بالقانون من علامات آخر الزمان!!.