تظل مواضيع تحديد الأجور العادلة للعمال من المواضيع الخلافية والساخنة في التاريخ البشري، فنادرا ما نجد موظفا لديه الرضى التام عن دخله بل يطالب بالمزيد، لذلك تستغل الأحزاب السياسية موضوعات رفع أجور العمال كطعم لكسب أكبر عدد من المؤيدين في الانتخابات السياسية، خصوصا في الغرب.

فعلى سبيل المثال لا تخلو المناظرات الرئاسية للولايات المتحدة من وعود برفع الحد الأدنى للأجور للموظفين بالحكومة الفيدرالية.

اعتقدت في بداية الأمر أن المطالبة بحقوق العمال ومنها تحديد أجر عادل مرض للطرفين المستفيد والعامل، نتاج الحركات اليسارية وأحزابها التي انتشرت كالنار في الهشيم من أقصاها إلى أقصاها بسبب كتابات الألماني ماركس في القرن التاسع عشر، لكن بعد مراجعة شريعة حمورابي وجدت نصا يكفل حق العامل، وذلك بوضع حد أدنى للأجور في المناطق التي يسيطر عليها هذا الملك الاستثنائي. حمورابي هو سادس ملوك بابل وورث الحكم عن والده في منطقة بلاد الرافدين عام 1750 قبل الميلاد، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أنه قد يكون من أصول عربية. استطاع "المعتلي" وهو معنى اسم حمورابي إحداث تحول سياسي وإداري غير مسبوق ببلاد ما بين النهرين، فقد حاول في بداية حكمه تقوية الجبهة الداخلية، وعقد معاهدات سلام مع الدويلات المجاورة، ما أتاح للملك العمل على تكوين جيش قوي واقتصاد مزدهر ساعده لاحقا في التوسع واحتلال مناطق شاسعة، جعلت من بابل إمبراطورية مترامية الأطراف.

اشتهر حمورابي بقوانينه، أو ما ما يسمى "شريعة حمورابي" وهي 282 مادة قانونية، تشمل تنظيم العلاقات بين البشر وقد أملاها حمورابي على معاونيه ليكتبوها على الواح حجرية ضخمة توضع في الأماكن العامة لكي يتاح للجميع الاطلاع عليها ومعرفة حقوقهم وواجباتهم.

زعم حمورابي أن هذه التشريعات هي لإرضاء رب الشمس الذي يؤمن به البابليون، ومن أهم مواد القانون أن السن بالسن والعين بالعين، وهذه يعتقد أنها من الشرائع السماوية السابقة، كما أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، كانت تفسرها مواد القانون الذي يحث على أحقية المتهم في الدفاع عن نفسه. أيضا أكد حمورابي على تحديد الأجور لبعض المهن الشائعة في تلك الحقبة. كما نصت مادة في القانون على التبليغ عمن يخطط لعمل إجرامي في المجتمع، فعلى سبيل المثال بائعة الخمر التي لديها حانوت وتجمع فيه مجرمون للتنسيق لعمل غير مشروع ولم تبلغ عن هذا للسلطات، فإنها تكون معرضة للإعدام. شهادة الزور كانت أيضا من المواد المنصوصة في المسلة التي كتب عليها هذا القانون بالحروف المسمارية، فنجد أن شهود الزور معرضين للإعدام إذا كانت شهاداتهم قد تقود إلى إعدام متهم ما.

كما أن سارق الحيوانات أو القوارب ونحوها ملزم بإعادة ثمن المسروقات أضعافا كثيرة، تصل للثلاثين ضعفا للحد من السرقة، والسارق الذي لا يستطيع الوفاء بالتعويض يقتل.

كما نصت مواد قانون حمورابي على أهمية الحفاظ على كينونة الأسرة وعلى استقرارها، فنجد التشريعات صارمة في حق الزناة، وعقوبتهم الرمي في النهر حتى لو كانوا غير محصنين، كما أن عقوبة الاغتصاب والخيانات الزوجية، الإعدام رغم ميل القانون للجانب الذكوري في مسائل العلاقات خارج إطار المؤسسة الزوجية.

أيضا كان حمورابي صارما في موضوع عقوق الوالدين، حيث أمر بقطع أصابع الولد الذي يضرب والده.

من اللافت في القانون المذكور ورود لفظ الثور في عدة مناسبات، وهذا يرجع لأهمية العجل والثور وما شابههما من فصائل في الحضارة البابلية، فلو كان ثورا معروفا بأنه نطاح ولم يربط من قبل مالكه وتسبب في نطح شخص وقتله يكون مالك الثور ملزما بدفع دية مقدرة من الفضة لأهل المغدور. ومن المواد المأخوذة على هذا القانون أنه يحمل أبناء المخطئين العقوبة في بعض الحالات حتى لو كانوا أبرياء من خطيئة والدهم، فعلى سبيل المثال لو سقط بناء على ابن صاحب البيت ومات، فإن ابن المهندس أو ابن الباني يعدم، وهذا يثبت قصور بعض النصوص الحمورابية.

في الختام أود التنويه لأخطاء شائعة حول شريعة حمورابي، ومنها أن حمورابي أول من وضع القوانين في التاريخ البشري والتي تنظم المعاملات والحقوق بين البشر بعضهم البعض أو ما بين البشر والأرض، والبعض الآخر، يعتقد أن حمورابي هو أول من كتب القانون كتابة وليس مشافهة، والاعتقادان فيهما نظر، كون قوانين حمورابي ليست أول قانون في التاريخ البشري، وليست أول القوانين المكتوبة، وهذا ثبت مع الاكتشافات التاريخية التي تثبت أنه كان على الأقل ثلاثة تنظيمات قانونية في مناطق العراق والشام، منها قوانين "أور- نمو" ولبت عشتار، التي استفاد منها حمورابي في الوصول إلى مواد قانونية واضحة.

لكن ما يميز شريعة حمورابي أنها أثرت في القوانين التي جاءت بعدها في كثير من المجتمعات الشرقية، حتى بعد وفاة حمورابي بقرون، وأثرت كذلك في صياغة القوانين البشرية الغربية في التاريخ المعاصر خصوصا في ظل تأكيد حمورابي على فصل الكهنوتية عن القانون.

أيضا ما يميز شريعة حمورابي أنها وصلت إلينا كاملة بالخط المسماري بعد اكتشاف إحدى المسلات المكتوب عليها المواد 282 لشريعة حمورابي في بداية القرن الماضي، وهي معروضة في متحف اللوفر بباريس.

قد لا تكون شريعة عادلة في جميع موادها، لكنها محاولة من ملك أراد أن يذكر بالعدل بين رعيته.