بقيت إمبراطورية اللغة العربية منتشرة في كل أقطار الأرض، فما دام القرآن يتلى في المساجد والمحاريب والمدارس والجامعات، وعلى لسان كل المصلين فإن هذه اللغة باقية، يحفظها الذكر كأنما هي قد دخلت في حفظ الله حافظ الذكر «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: 9).

ولكن بعض التقصير، ولا أقول في تدريسها ومدارستها، وإنما أضيف إلى ذلك في العجز عن تلقينها، فحتى الدارس لها كثيرًا ما يخطئ نحوًا وصرفًا؛ لأن التلقين هو المعلم الأول لها، فالأستاذ يعطي درس اللغة بأسلوب عامي، كأنه حينما يعلم قانونها لا يحرص على الامتثال لهذا القانون، فكم من مرة أحرص فيها ألا أخطئ نحوًا، وأعجز عن تمام هذا الحرص لأصيب صرفًا، فالنحو قد تلقيته دراسة، أما الصرف فما كان لي أن أتلقاه تلقينًا، فالتلقين أصبح في حكم العدم.

وظاهرة أخرى هي التي حملتني أن أكتب هذه المقدمة، وهي الإحاطة لبعض الألفاظ العربية الفصيحة من بعض علماء اللغة الأولين على أنها معربة، فمثلًا كلمة «استبرق» تطالع في معاجم اللغة أو في كتب التفسير على أنها معربة عن الكلمة الفارسية «استبراه»، ذلك سببه الولع من هؤلاء العلماء بلغتهم الموروثة يحملون لغتنا المكتسبة لهم بأنها مأخوذة من الفارسية، مع أنك لو سألت أي فتاة أو فتى من أبناء اللغة العربية عن أصل هذه الكلمة «استبرق»، لقال لك إن لها بريقًا، وبالفعل طرحت هذا السؤال فكانت الإجابة من فتاة هي كما قلت، فمادة الاشتقاق سواء كانت الفعل الماضي «برق»على رأي الكوفيين، والمصدر «برقا» فإن استبرق تكون مشتقة من «برق» أو «البريق»، فلماذا نقول إنها معربة وعندنا مادة الاشتقاق؟

والكلمة الكريمة «القرآن»، فقد قال بعضهم إنها معربة من الحبشية فلماذا، وعندنا أصل الاشتقاق «قرأ» أو «قراءة» ثم إن الحبشية والعبرانية والآرامية والسريانية وما إلى ذلك، من أصل واحد هو اللغة السامية، استعجمت على ألسنة هؤلاء، أو تجمدت على هذا الأصل، بينما جاءت الفصحى العربية تشرق بها، وتلفظها بجرس ورنين كأنما أزالت الجمود عنها، وأطاحت بالاستعجام، فكلمة «القرآن» كلمة عربية؛ لأن مادة الاشتقاق موجودة.

وبالأمس أخذت «لسان العرب» للإمام ابن منظور أتعرف على لفظ «الكناس» بيت الظبي، والكنيسة معبد النصارى، والكنيست برلمان اليهود، فإذا ابن منظور، عليه رحمة الله، يشرح الآية «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ» (التكوير: 15 - 16) شرحًا وافيًا، كلها ترد إلى هذا الاشتقاق، لكني قد رأيته يقول و«الكنيسة» معربة عن «الكنيست»، فعجبت كيف يشرح لفظًا من هذا الاشتقاق ورد في القرآن على أنه معرب عن العبرانية، فهل كلمة «شالوم» تعني «السلام» هي الأصل عربت عنها كلمة «السلام»؟ وهل «أورسليم» معربة عن «أورشليم»؟ وهل كلمة «اثنين» العربية معربة عن «ثناين»؟ كل هذا يجعل اللغة العربية لغة ملفقة، فالكنيسة والسلام وأورسليم واثنان! كلمات عربية الأصل ليست معربة عن العبرانية، وإن كانت سامية العرق باشتراك العبرانية في استعمالها كلغة ورثتها.

وهناك ألفاظ قرآنية كالزنجبيل والقسطاس، قالوا إنها معربة أصلها أعجمي، عربها القرآن، مع أن الحق أن القرآن وقد نزل باللغة الفصحى فقد كانت معربة فصيحة قبل نزولها، فجاء بها، وهي العربية الفصيحة لم يأخذها القرآن من الأعجمية، وإنما نزل بها وهي العربية الفصيحة، وإن عربت من زمن بعيد، فالتعريب من أصل اللغة، لغتنا الشاعرة.

وهذه كلمة كتبتها لعلّ قارئًا أو دارسًا يستفيد منها أو يعطينا الأكثر من ذلك.