فكما أنه من الابتذال الشديد اعتبار «فيزياء الكوانتم» امتدادا لفرانسيس بيكون، فإنه من الابتذال اعتبار الحداثة امتدادا لابن خلدون، فما طرحه ابن خلدون في «المقدمة» ـــ وهو عظيم وعبقري ـــ لا علاقة له بما مارسه فعليا في كتابه «العبر»، من سرد تاريخي تقليدي لم يلتزم فيه بالمعايير الرفيعة والعميقة في (مقدمته) بل كان تقليديا وفق نسق زمنه، ولهذا فمن الابتذال الشديد اعتبار ابن تيمية رائدا في الفلسفة أو العقلانية كما يحاول فلان أو فلان، لأهداف ديماغوجية لا علاقة لها بالصرامة العلمية، فتكتشف في جذورهم الفكرية سبب رقصهم (الذكي) على حبال «ابن تيمية» حينا وعلى حبال «ابن عربي» حينا آخر، لتلاحظ وراء كل هذه الألعاب الفكرية البهلوانية تلك الجذور التي تنتمي للفلسفة المثالية، التي تجعل كثيرا ممن ينتمون للفلسفة المادية يشعرون مع هؤلاء بمزيج من «الروعة في الطرح واللزوجة في المفاهيم»، وسبب دباقتهم يكمن في استبطان «التبريرية» لكل أبعاد «الفلسفة المثالية» في من يحكون عنهم تراثيا، مما يجعل كثيرا من أتباع السلفية «الوجدانية» ينقلون عنهم تبريراتهم لابن تيمية وغيره، فمهما تبرأت «الفلسفة المثالية» من الأيديولوجيا الدينية إلا أنها تعد «الأم» التي يهرب إليها أبناء الحركات الدينية في طول العالم وعرضه، لإعادة إنعاش أطروحاتهم وترميم أوصالها.
أخيرا، لا يمكن الوقوف حضاريا على أقدام مهترئة من الأطروحات التراثية مهما حاولنا ربطها بالحداثة أو حاولنا ربط الحداثة بها، أقصى ما يمكن فعله هو «الاستئناس الوجداني»، لمساعدة «العقل السلفي» في تجاوز مرحلة الفطام الفكري، والانتقال إلى مغذيات فكرية تتجاوز مرحلة «الرضاعة» من ثدي الأم، فالحياة مليئة بالأفكار الشرقية والغربية، والحضارة مجموعة أفكار تقوم على «نفي النفي»، وكما قيل فـ«البذرة تنفي حقيقتها بتحولها إلى نبتة على سطح الأرض، والنبتة تنفي حقيقتها بتحولها إلى شجرة شاهقة بأغصان وأوراق، والأوراق تنفي حقيقتها بظهور الأزهار، والأزهار تنفي حقيقتها بظهور الثمار»، فكيف لو علمنا بأن البذرة تم تعديلها عبر الهندسة الوراثية قبل أن تتحول إلى نبتة ذات أغصان، ثم تم تطعيم الساق بأغصان أخرى من شجرة أخرى، فمن ينفي من؟ ومن أصل من؟ هكذا هي الحضارة الإنسانية التي انشغلت بها أوروبا وما زالت تحت شوفينية فكرية يسمونها «المركزية الأوروبية»، يؤيدها الواقع على الرغم من «شوفينيتها»، ليرتد كثير من التقليديين فكريا في الوطن العربي إلى «الجحر الفكري الشوفيني» نفسه ويدخلونه بعنوان «المركزية العربية الإسلامية»، يؤيدها الشاهد التاريخي (الماضي) لفترة وصلت إلى ثمانية قرون، لتتحول القراءات «العلمية» إلى أنساق ذاتية مغلقة على نفسها، يهرب منها كل مثقف ينتمي لـ«المادية التاريخية» فيدرك أن إدعاء «المركزية» نوع من اللاتاريخية التي تجافي طبيعة الحضارة في «تاريخيتها» التي تؤكد أنها «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك»، لكنها تصل لمن يملك الاستعداد «الحضاري»، والواقع المادي في زمننا هذا يقول إن «الهند والصين» على أهبة الاستعداد، أما أصحاب «المركزية العربية الإسلامية» فما زالوا يعلون من شأن أطروحات ذات «نسق مغلق» في أقدار لازبة «كتبها الله على العرب في المستوى اللغوي!!» ما بين فحولة النسق المغلق وبيانية النسق، ليعيش العقل الإنساني في هذه البقعة الجغرافية حالة «لا تاريخية» تبحث عن ملكوتها في الماضي الذي لن يعود، أو في مستقبل ينسجه مثقفون مشغولون بقضايا «الموت»، فيختم أحدهم حياته بكتاب «مدخل إلى القرآن الكريم»، والآخر بعنوان «العقل المؤمن.. العقل الملحد» كانشغالات فكرية تتوسل في «لا وعيها» الدعاء بالرحمة والمغفرة، فتراهم ينحنون للشعبوية، عاجزين عن عظمة الأشجار في أن يموتوا واقفين.