أحد أكثر ما يميز العرب بين الأمم، هو العناية بالأنساب، فهو ليس نمط تفاخر كما يظنه البعض، ولكنه انعكاس لطبيعة الترابط بين العوائل والجماعات والقبائل، والارتباط بالجذور والجغرافيا والثقافة والتاريخ، وتعزيز قيم المجتمع، فهو مسؤولية الفرد تجاه جماعته، ومسؤولية الجماعة تجاه الفرد المنتمي لاسم العائلة، وهو سلوك يجب أن يستمر مع ظهور الحداثة والعولمة، وما زال راسخاً حتى في أوروبا وأمريكا مع العوائل الأكثر نفوذاً.

العوائل ليست قبائل، فهناك عوائل مترابطة تمتد لثلاثة أجيال أو أكثر، وقد تعود لقبائل تمتد لأجيال طويلة، أما أحد أشكال العناية بهذه العوائل، فهو توثيق أنسابها وإدارة شؤونها عبر إشراف كبارها، وتوفير الدعم لأفراد هذه العائلة، وهو ما يصنع أنوية راسخة في المجتمع، حيث إن هذه الأعمال تندرج في العمل الخيري غير الربحي، والذي أدرج ضمن مؤشرات رؤية المملكة الطموح.

فالعمل الخيري يعالج انعدام الكمال في العمل المؤسسي، فالدولة هي المعنية بالتنظيم والتشريع، وتقديم الخدمات للمواطنين، مثل الرعاية الصحية وتوفير فرص العمل وفرص السكن، ولكن العمل الخيري يحقق التكامل لهذا العمل المؤسسي، ويمكننا التعامل مع العمل العائلي الممتد، باعتباره أحد أشكال استمرارية بناء المجتمع.

قديماً قبل ظهور الدولة الحديثة، والتي توفر الأمن وتحتكر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كانت الجماعة بمختلف أشكالها، مصدراً أولياً لهذه السلطات، وكانت هي من توفر الأمن، وكانت الجماعات ممثلة بمختلف القبائل تتحالف لصد المخاطر الخارجية، وأحياناً كانت تتحالف مع قيادة واحدة جامعة، مثل تحالف القبائل السعودية، في الدولة السعودية الأولى، مع الإمام محمد بن سعود، ضد الغزاة العثمانيين وحلفائهم من الألبان والأوروبيين، وهو ما تكرر بطرق مختلفة، عبر تحالف مختلف الأمراء والشيوخ ورجال الدولة الثالثة، مع أسد الجزيرة الملك عبد العزيز آل سعود.

وقد كان من أسباب استقرار الدولة، العلاقات الوطيدة بين قيادة الدولة وبين العوائل بمختلف أشكالها، وما تمثله هذه العوائل من قيم تقليدية، مثل الالتزام بالمواثيق والعهود الشرعية، واحترام الصغير للكبير، لذلك ظلت العائلة بمختلف أشكالها وأحجامها، أحد أركان بناء الدول في التاريخ العربي للسعوديين، والذي يمتد لآلاف السنين.

التفكك العائلي في المجتمعات، وكثرة القوميات غير المنسجمة وضعف أعدادها، كان تاريخياً أحد أسباب سهولة غزو تلك الدول، وإعادة تشكيل هويتها من قبل المحتلين، بينما نجد في السعودية انسجاماً كبيراً في العادات والثقافة، بين مختلف أطياف المجتمع، سواء بين أبناء الصحراء أو الجبال أو السواحل، فرغم الاختلافات الثقافية التي تعد أحد مصادر ثراء ثقافتنا المحلية، إلا أن القواسم المشتركة تبرز في التكاتف العائلي، والقومية العربية الأصيلة. فالسعودية هي أول دولة في العصر الحديث، تسمي نفسها بقوميتها العربية، وهي أول مشروع وحدة عربية حديث بين القبائل والعوائل العربية، وقد قال المؤسس – طيب الله ثراه – «أنا عربي، ومن خيار الأسر العربية، ولست متطفلاً على الرئاسة والملك، وإن آبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك».

فكل ما نعيشه من عزة وكرامة لا يقوم على العدم، إنما هو امتداد لموروثات راسخة، منها العناية بأسرنا العربية وعروبتنا، وتعزيز قيمها التي تقوم على عوامل كثيرة، منها احترام الصغير للكبير، والالتزام بالعهود والمواثيق واحترام الجار، والاعتداد بديننا وتراثنا، ولباسنا ووجوهنا وأسمائنا، مع امتلاك قدرة متميزة وعالية، في التغير الثقافي وحماية مصالحنا، وتغيير مواقفنا المستندة إلى ثوابتنا الراسخة.