كنت قد كتبت في مقالة سابقة، عن ليليث والخطأ الفادح الذي ارتكب بربط ليليث بليلى العامرية، وربط إحدى أيقونات تراثنا في الأدب العربي بأيقونة الشر في التراث الأكادي واليهودي القديم، واليوم سوف أتحدث عن تحويلها إلى أيقونة الحركة النسوية في بداية القرن العشرين.

في اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش، كان أول ذكر لها حيث كتب في اللوح: أن الإلهة إنانا «هي إلهة بلاد الرافدين القديمة المرتبطة بالحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة والحرب والعدالة والسلطة السياسية، والتي كانت تعبد في الأصل في سومر، ثم عبدها لاحقًا الأكاديون والبابليون والآشوريون تحت اسم «عشتار»، نقلت شجرة الصفصاف إلى حديقتها في أوروك «وهي المدينة التاريخية للحضارة السومرية والبابلية والمدينة التاريخية لدى السومريين والبابليين»:

اهتمت إنانا بالشجرة بعناية وحب

كانت تأمل أن يكون لها عرش وسرير

صنعت لنفسها من خشبها.

بعد عشر سنوات، نضجت الشجرة.

ولكن في غضون ذلك، شعرت بالفزع

أن آمالها لا يمكن أن تتحقق.

لأنه خلال ذلك الوقت

بنى تنين عشه عند سفح الشجرة

كان الطائر ذو الإنزو يربي صغاره في التاج،

وقد بنت الشيطانة ليليث منزلها في المنتصف.

لكن جلجامش، الذي سمع بمحنة إنانا،

جاء لإنقاذها.

أخذ درعه الثقيلة

قتل التنين بفأسه البرونزية الثقيلة،

التي كانت تزن سبع وزنات وسبعة ميناس.

ثم طارت الإنزو إلى الجبال

مع صغارها،

بينما ليليث مرتعبة من الخوف

هدمت منزلها وهربت إلى البرية

ولكن يوهان جوته هو من أوائل الكتاب الرئيسيين، الذين قاموا بترويج ليليث في بدايات القرن التاسع عشر، حيث أصبحت بعد ذلك مشهورة في جميع أنحاء العالم الغربي، وتم تصويرها في الكتب والأفلام والبرامج التليفزيونية، وألعاب الفيديو والرسوم المتحركة اليابانية والكوميديا والموسيقى، ففي مسرحيته عام 1808 فاوست: الجزء الأول من المأساة، جاء المقطع التالي، حيث يذكر ليليث بالمعنى الذي يظهر في التراث اليهودي:

«إنها ليليث.

من؟

زوجة آدم الأولى هي.

احذر من الإغراء داخل خصلات شعرها الجميلة،

الزينة الوحيدة الرائعة لشعرها.

عندما تنجح مع شاب في الشرك،

وأبدا لن تحرره بعدها من قيدها»

وضمن تعليقات شخصية همبرت، في رواية لوليتا لفلاديمير نابوكوف، والتي نشرت في عام 1955، جاء التالي: «يمكنني البحث عن حواء بسهولة، لكنني أبحث عن ليليث»، مشيرًا هنا إلى جاذبية الإغراء الممنوع، الذي يُنسب إلى ليليث بشكل متنوع ومتكرر في الأدب الغربي.

كانت الشيطانة ليليث حتى أواخر القرن العشرين، تتمتع بسمعة مخيفة كخاطفة وقاتلة للأطفال ومغوية للرجال، ولكن مع ظهور الحركة النسوية في الستينات، اكتسبت مكانة عالية كنموذج للمرأة المستقلة، التي تقدس حريتها وترفض التبعية، وكان المؤثر الأول والأكبر هو كتابات جوديث بلاسكو، حيث قامت بتحويلها من خلال مقالاتها في المجلات النسوية من شيطان رجيم إلى نموذج عصري يحتذى به! ويذكر هنا أنه بالرغم من أن ليليث أخذت مساحة كبيرة في الثقافات الشعبية القديمة، وخاصة ما ينسب إلى التراث اليهودي، ولكن إن بحثنا في النصوص اليهودية الكلاسيكية فسوف نجد أنه نادرا ما تذكر، وإن ذكرت فإنما تذكر فقط على أنها روح شريرة، وليست كزوجة أولى لسيدنا آدم، والتي رفضت وتمردت على التبعية، كما تم إدراجه في كتبهم فيما بعد، بل إنه تم ذكر ليليث في المرات القليلة جدا في التلمود البابلي، على أنها روح شريرة، ولم يشر إليها في أي منها على أنها زوجة آدم!

لست هنا للحكم على مسيرة النسوية في الغرب، ولا على ما انتقل إلينا منها هنا في الشرق، فمن يريد أن يحكم فليقم بالبحث في مصادر مختلفة ومتنوعة، للتعرف على تاريخ المسيرة وتفرعاتها حتى يفهم، ومن ثم يعمل على تقييم المراحل وتأثيراتها على المجتمعات التي احتضنتها، ولكن هنا لم تكن المقالة سوى محاولة لإلقاء الضوء على زاوية معينة، أدت إلى كوارث في المجتمع الإنساني، ألا وهي تحويل الشر ليمثل المرأة العصرية، والمؤسف حقا أنها حملت معنى للإناث بينما المعنى الأصلي «الشر والإغواء» بالنسبة للرجل الغربي بقي كما هو، ومن هنا ينطبق على من سلكن هذا الطريق من نسويات الغرب المثل الشعبي القديم: «جاء ليكحلها قام عماها»! لأنه وكما نجد في الإعلام الغربي تم استغلال المرأة بعد تحررها، ليس من أجل المساهمة في المساواة والمساهمة في البناء والارتقاء، بل من أجل الهدم من خلال استغلالها كجسد وإغواء، وهذا هو الظاهر جليا في أعمالهم الفنية من دراما ورسم ونحت وصور ومقاطع إعلانية، حيث لا تخلو من استخدام المرأة كعامل للانتشار والتأثير!

واليوم، وللأسف الشديد، نرى أن عالمنا الفني والأدبي والمهني أيضا، قد تفشت فيه هذه الرؤية، واعتبر التعري والإغراء في المشهد، والكلمة والصوت عنوانا للعصرية والتمدن، ومن تحاول أن ترتقي إلى الأعلى تجد أنها تنحت الصخر لكي تصل محاولة أن تجعل الذكر ينظر ويصغي، ويأخذ بعين الاعتبار ما تحمله في دماغها من علم وفكر وخبرات! وأترككم مع نصيحة سمعتها لمديرة كانت قد قدمتها إلى موظفة في إحدى الشركات «على ما يبدو فهمت التحرر والاستقلالية والتقدم الوظيفي بالتحلل من اللباس المحتشم»: «You don’t have to make men look down so you can move up»؛ ليس عليك أن تجعلي الرجال ينظرون إلى الأسفل حتى تتمكني من الصعود إلى أعلى! إن من ينخدع بالشعارات المضللة، كمن ينبهر بشعاع الحمق فيصطدم بعفن العقل والمنطق!