نستكمل في هذه الحلقة الحديث عن شواهد إسقاط العقل في الفكر المعتزلي، وهو ما بدأناه في الحلقة السابقة من المقال.

هل تعلم أن مذهب المعتزلة في مرتكب الكبيرة مخالف للعقل والنقل، فهم في غاية الشدة على مرتكب الكبيرة من المسلمين؛ والعجيب أن أكثر من يدافعون عن المعتزلة اليوم من المرجئة ودعاة التحرر الذين أقل أحوالهم أنهم يُهَوِّنون من شأن المعاصي، ويتوسعون في المباحات حتى أنهم ربما أدخلوا فيها بعض الكبائر؛ ولو علم بهم معتزلة ذلك الزمان لحكموا عليهم بالخلود في النار!

نعم؛ لأن المعتزلة يحكمون على مرتكب الكبيرة في أحكام الدنيا بأنه في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا يقال له: مؤمن، ولا يقال له: كافر، وأما إن مات فهو في الآخرة في النار خالدًا فيها أبدًا، وليس بينه وبين الكافر فرق سوى أنه أخف عذابًا منه، ويقول كثير منهم: إن الله لا يجوز له أن يرحمه [تعالى الله عما يقولون]!

فأين مكان العقل في هذا المذهب؟

إذ كيف يسوغ عقلًا القول بأن الإيمان كتلة واحدة لا تتجزأ، فإما أن يبقى كله، أو يذهب كله، وكأنه قطعة صخر أو حديد، ليس هناك خيار ثالث بين أن تكون باقية في المكان أو ذاهبة عنه؛ وكيف يُقر العقل بأنَّ من وَحَّد الله وصلى وصام وزكى وابتُلِي بكبيرة تذهب هذه الكبيرة بكل عمله وإيمانه، ويُخَلَّد في النار كما يُخَلَّد الكافرون، كيف يستقيم هذا عقلًا، وهل يرضاه المدافعون عن الاعتزال اليوم لأنفسهم.

وأين من العقل أن يتجرؤوا ليوجبوا على الله تعالى، أو يقولوا: لا يجوز له أن يفعل كذا، وهم لا يستطيعون أن يوجبوا أو يمنعوا ملوك الأرض وكُبَراءها، بل ولا حتى أقرانهم الذين هم عباد أمثالهم، فكيف جنحت عقولهم وضلالهم ليتأكدوا على الله ويوجبوا عليه ويمنعوه، حسبنا الله ونعم الوكيل.

أين هذا من مذهب السلف رضي الله عنهم ومنهج أهل السنة، وهو أن الإيمان يزيد في القلب وينقص، وأن من ارتكب كبيرة مؤمن، وأن كل مسلم مؤمن بما بقي عنده من إيمان، يتفاوت الناس في ذلك فيما بينهم، وأن من مات وهو عاص فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذَّبَه وإن شاء غفر له، وأنه لا يخلد في النار إلاَّ الكافرون، وأن أهل المعاصي يخرجون من النار متى شاء الله ويدخلون الجنة، وأن الله لا يوجب عليه أحد شيئًا، وكيف ذلك وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر!

وهذه القضايا التي تحدثنا عنها تعتبر عند المعتزلة من أمهات قضاياهم التي تُميزهم، وأنت ترى عدم توائمها مع العقل؛ لكن المُحَقِّق للعجب هو أن تلك القضايا ضد المنهج الفكري الذي يعتقده أكثر المنادين اليوم بإحياء الاعتزال أو الممجدين للمعتزلة، فما هو سبب ترويجهم للفكر الاعتزالي؟

الجواب: إنما ذلك بسبب موقف المعتزلة من السنة النبوية، فالمعتزلة لا يقبلون أخبار الآحاد في العقائد أيًّا كانت مكانة هذا الخبر من حيث القوة، فهذا ما أعجب المستشرقين ومن نحا نحوهم في العمل على هدم الدين بقصد أو بغير قصد.

وهم يعتقدون أن رد خبر الواحد موافق للعقل بحجة أنه ظني الثبوت، والعقائد لا يُقْبَل فيها إلا قطعي الثبوت؛ والحق أن ردَّ خبر الواحد الذي ثبتت صحته مجانب للعقل وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أن رسالة الإسلام كلها بأصولها وفروعها وعقائدها وفقهها جاءتنا بخبر واحد، صلى الله عليه وسلم، ووجب علينا قبولها جملة وتفصيلًا، فإذا قبلنا الدين بأسره بخبر واحد تيقنًا من صدقه فيما أخبر به، وجب علينا أن نقبل آحاد المسائل بخبر واحد تيقنًا من صدقه فيما يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل ذلك من باب أولى.

الثاني: أن التفريق بين مسائل الفقه ومسائل العقيدة، فيقبل خبر الواحد في الفقه ولا يقبل في العقيدة، تفريق لا يدل عليه نقل ولا عقل؛ وذلك لأن مسائل العقائد التي يصبح المرء بالتزامها مسلمًا، وبتركها غير مسلم، وهي أركان الإيمان الستة، وما يتعلق بها من توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وختم الرسالة ووجوب الاتباع، وكمال الدين، وغيرها، كلها ثابتة بالدليل القطعي وهو كتاب الله تعالى، وبذلك هي خارجة عن محل النزاع، فتبقى مباحث العقيدة التي ليست أركان الإيمان ولا تتعلق بها، فهذه لا يمكن إيجاد فرق مؤثر على مسألة القبول بينها وبين أحكام الفقه؛ بل كثير من أحكام الفقه كشروط الصلاة وواجباتها ألزم على المسلم من بعض فروع العقيدة، كصفات الصراط المستقيم التي لا يقبلها المعتزلة؛ لأنها أخبار آحاد.

الثالث: أن كثيرًا من أخبار الآحاد تفيد القطع، كأن يروي اثنان حديثًا واحدًا، ونعلم بالضرورة عدم تواطئهما على الكذب لتباعد بلديهما أو لغير ذلك من الأسباب، وقد حكم المعتزلة برد أخبار الآحاد جملة دون تفريق.

والأمر المنافي للمنهج العلمي هو أن المعتزلة يردون خبر الواحد إذا استدل به خصومهم؛ لكنهم يقبلون الاستدلال حتى بالضعيف والموضوع من أخبار الآحاد لأنفسهم، وقد مَثَّل لذلك علال في كتابه (جناية المعتزلة على العقل والنقل)، ومما ذكره استدلال القاضي عبد الجبار على مذهبه في القضاء والقدر بما نسبه لعائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (الأمر مفروغ منه)، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: (إذا كان مفروغًا منه فلم بعثتُ)؟ والحديث الذي رواه ليس له إسناد ولا يوجد في كتب الحديث ولا التفاسير ولا كتب التراجم ولا غيرها، فهو مختلق [انظر: ص 158]، ونقل المؤلف هناك عددًا من الأحاديث عن عبد الجبار وحده فكيف بغيره.

إذن، فنتيجة هذا المقال: أن عقلانية المعتزلة وهم لا حقيقة له، وتمجيد البعض لهم ليس سوى موافقة هوى، أو للتعبير عن أحقاد على المنهج السلفي.