قرأت مؤخرا مقالة الكاتب توفيق السيف بعنوان «الفلسفة في المدرسة» لذا أحببت أن أقتبس عنوان مقالته، ليكون عنوانا لمقالتي اليوم، وأطرح وجهة نظر مختلفة حول تعليم الفلسفة، اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فمقالاته القيمة التي استفدت منها كثيرا، دائما ما تحرك المياه الراكدة، وتحفز التفكير والتأمل.

لا شك لدينا أن تعليم الفلسفة في المدارس من القضايا الإشكالية، ليس فقط في الدول العربية والإسلامية فحسب، فتعليم الفلسفة يمر بواقع مأزوم في كل دول العالم، لدرجة أن هناك من ينادي في الدول الغربية بموت واضمحلال الفلسفة، بعد وقوع الطلاق البائن بينها وبين العلم. فتعليم الفلسفة يواجه اليوم تحديات كبرى تتضح ملامحها في إغلاق كثير من أقسام الفلسفة، أو تقليصها أو دمجها ضمن أقسام أخرى، وتراجع أعداد الطلبة الراغبين في التخصص، ويعود ذلك لمجموعة من التحولات المتزامنة مع التطور الاقتصادي والتقني الذي يعيشه العالم.

يقول الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هيدجر، نقلا من كتاب الفلسفة وتعليمها لبيار مالك: «بعد أن أعطت الفلسفة العلوم، نالت هذه الأخيرة استقلاليتها التامة، ولم يبق للفلسفة إلا أن تموت. فنهاية الفلسفة تظهر كانتصار عالم أصبح خاضعا لمتطلبات العلم القائم على التقنية، وعلى نظام اجتماعي يلبي حاجات هذا العالم. نهاية الفلسفة تعني بداية حضارة عالمية مؤسسة على الفكر الغربي الأوروبي».

ونقلا من نفس المرجع -الفلسفة وتعليمها- يقول كارناب: «لا أحد ينكر على الفلسفة أنها أنجبت العلوم، ولكن هذه العلوم هربت من الدوران في فلك الفلسفة وإن كانت تدين لها بوجودها. حتى إن العلوم الإنسانية بدورها لم تعد لها أي علاقة بالفلسفة، إذ تحررت منها كليا واقتربت من المنهجية العلمية، التي تعتمدها العلوم الاختبارية».

يتضح من كلام هيدجر وكارناب، أن الفلسفة فعلا تعيش أزمة، هذه الأزمة تطال أدوار الفلسفة في العصر الحديث، وماذا تستطيع أن تقدمه في ظل الانتصارات الساحقة للعلم؟ فتحرر العلم من الفلسفة هو السبب الرئيس وراء هذه الأزمة الخانقة للفلسفة، فهي تعيش اليوم منزوية في حديث المقاهي الأدبية والندوات، وفي مقالات النخبة، بعيدا عن هموم المجتمع وقضاياه المعاصرة.

فالفلسفة عاجزة اليوم عن تقديم نفسها أمام سطوة وهيمنة العلم ومناهجه. لذلك قرر أنصارها ومؤيدوها منحها أدوارا بديلة، كأن تمارس دور الرقابة على ما تنتجه العلوم، أو جعلها طريقا للتسامح والحوار والتفكير المستقل، وكأن هناك علاقة سببية بين الفلسفة والتسامح أو الفلسفة والتفكير الناقد، وأعتقد أن خلق هذه العلاقة الوهمية لا يخلو من اختزال مبهم، وجد ضالته في عالمنا الحديث الغارق في الصراعات الدينية والثقافية والعرقية، وهنا تقدم الفلسفة وكأنها الملاذ الآمن للشعوب لتعيش الفردوس الأرضي، المتحرر من أغلال التعصب والصراع والكراهية.

وبما أن المقال يتناول قضية تعليم الفلسفة، وتحديدا لطلاب المدارس، فإن أول ما يتبادر للذهن قضية المنهج الدراسي للفلسفة، كيف يمكن أن ندرس مادة الفلسفة، وكيف يمكن أن نحول الفلسفة لمادة مدرسية تلائم عقل الطالب، دون أن تفقد الفلسفة طبيعتها؟ والسؤال الأهم كيف يمكن أن نضع كتابا مدرسيا لمادة الفلسفة؟ إذا كان تدريس الفلسفة في المراحل الجامعية مقبولا إلى حد ما، ولكنه مليء بالإشكالات التربوية في مراحل التعليم الثانوي، لأنه يصعب تحويل الفلسفة لمادة مدرسية تلائم عقل الطالب المدرسي، دون أن تفقد هويتها وجوهرها. وأنا هنا أطرح جملة من الأسئلة بخصوص متعلقة بقضية تدريس الفلسفة لطلاب المدارس: كيف يمكن أن أشرح لطالب في المرحلة المتوسطة أو الثانوية، مصطلحا فلسفيا متداولا بكثرة في كتب الفلاسفة كمصطلح «الديالكتيك» على سبيل المثال، كيف نستطيع أن نعرف لهم الفلسفة، ونقدم لهم القضايا الفلسفية الكبرى في كتاب مدرسي، وهل من الممكن استعراض السياق التاريخي الذي نشأت فيه أفكار فيلسوف ما؟

الفلسفة ليست علما محددا، أو مجموعة من المعارف واضحة المعالم، يمكن تبسيطها وتحويلها لمادة مدرسية، تراعي عمر و عقل الطالب ومستواه الفكري، نظرا لخصوصيتها بالمقارنة مع بقية المقررات الدراسية. وهذا ما يجعل القضية لا تقتصر على تعليم الفلسفة من عدمها، بل يتجاوزه نحو إشكالية محورية وهي: كيف نحول الفلسفة لمادة دراسية يمكن أن يستوعبها الطالب، دون وقوعها في فخ التلقين، أو تشعرهم بالإحباط لعجزهم عن مجاراة قضايا فلسفية كبرى، لا توازي تمثلاتهم العقلية البريئة للعالم من حولهم.