نحن ـ البشر ـ نبحث دائمًا عن العلاقات بين الأشياء، سواء كانت من الجمادات أو من ذوات الأرواح، معلومات أو أفكارًا، مناظر أو ظواهر، ضجيجًا أو صمتًا، المهم أن عقولنا في بحث دائم عن نمط معين نصل إليه، وغالبًا ما نشعر عندئذ بالارتياح، وأحيانًا نشعر بارتياب يصل حدّ الذعر. هذه العملية قد تصل بالبعض إلى اتخاذ قرارات كارثية، والبعض الآخر قد تأخذه في طريق الإبداع، كيف نفرق؟ كيف نستخدم هذه الخاصية من العقل البشري في مصلحتنا؟ كيف نتمكن من السيطرة عليها بحيث لا تجرفنا إلى عالم قد نغرق داخله وننساق خلف الخرافات والتلاعب بنا من قبل الأخباث أو الدجالين المتمكنين من خلق مشاهد قد تضللنا وتأخذنا إلى حيث يريدون أن نذهب، ومن ثم ينقضون علينا بالنصب والاحتيال، أو قد يكون بالسيطرة من أجل خلق أتباع ومؤيدين في نشر الشر والأذى؟

المعرفة هي بداية الطريق، ومن ثم يأتي الوعي أو الإدراك، عندئذ يصبح العقل في حالة استعداد للتلقي ولكن بدون انقياد. مشكلتنا أننا نقرأ أو نبحث في دائرة التخصص، وقلما نغامر ونخرج عن حدود الدوائر التي رسمناها لأنفسنا، فالعلم لا حدود له، ومن يحدده هو الإنسان نفسه، فالقرار بيده أن يقرأ ليتعرف ويبحر في عالم المعرفة المتنوع، أو أن يبقى منشغلًا في مجال واحد ليرتقي من خلاله على سلم الخبرة والمكانة الأكاديمية أو المهنية أو الاجتماعية! وهنا لا أتحدث عمن يحفظ أو يقص ويلصق معلومات متفرقة من هنا وهناك ليس لديه أي معرفة بالعلاقات فيما بينها، بل يجهد نفسه فقط للتظاهر والإبهار، فهؤلاء ممّن يبحثون عن التقبل من خلال الظهور بثياب المثقفين، وينتهي بهم الأمر إلى ثياب مزيفة يظنون أنها خفية بينما هي واضحة!

المعرفة ليست سوى بحار من العلوم تربطها أنهار من الفكر، إنها علوم متنوعة تصب في بوتقة واحدة، إن بحثت عن العلاقات وجدت أنها لا تعد ولا تحصى، بدليل أن غالبية المكتشفات والمخترعات لم تأتِ من رحم علم واحد، بل إنها كي تخرج وتتطور تعتمد بشكل كبير على العلوم الأخرى. وما زالت العلوم كل يوم في اتّساع وتنبثق منها مسارات جديدة لتتفرع على شكل تخصصات دقيقة. وهنا قد يتساءل البعض: هل المطلوب أن نطلع على كل العلوم؟ بالطبع كلا! التنوع لا يعني الكل، ولكن التنوع يعني الخروج من دائرة التخصص والولوج في مسارات أخرى قد تكون مستقيمة أو لولبية أو متعرجة، لا يهم أين تأخذنا، بل المهم أننا نأخذ أول خطوة وندخل الغابة، فقد تشدنا الظلال، أو يأسرنا عبق التربة بعد المطر، وربما نقفز داخل جدول بارد ونترك أقدامنا تستكشف القاع وهي حافية بمشاعر الفرح كطفل يحاول أن يبقي على توازنه مع خطواته الأولى. نعم.. بإمكاننا أن نحول المعرفة إلى نور وحياة نعيشها ونتذوق رحيقها، وبإمكاننا أن نحولها إلى أبجدية باردة على أوراق مبعثرة!

هل سبق أن وقعت في فخ الباريدوليا Pareidolia ؟ قبل أن تجيب يجب عليّ أن أُعرّف لك ما هي؟ أليس كذلك؟ إنها رؤية معانٍ في أشياء لا تحمل أي معنى كرؤية الوجوه في الجمادات والصور والسحب، أو سماع كلمات أو أصوات معينة داخل أصوات أخرى. لا بد أنك ـ عزيزي القارئ ـ قد مررت بمشاهد رأيت فيها تشكيلات معينة؛ مثل أن ترى دبّا في السحاب أو رأس رجل في تشكل صخري، أو سمعت صوت مواء في حفيف الشجر، كلٌّ له تجربته الخاصة؛ فإن القدرة على تجربة الباريدوليا تكون أكثر تطورًا لدى بعض الأشخاص وأقل تطورًا عند البعض الآخر، والتطور هنا لا يعني درجة الحدة التي قد تؤدي إلى التخيل المستمر والذي بدوره يدل على خلل في الحالة النفسية، التطور هنا يميز الكثير من المبدعين خاصة في مجال الفنون والأدب وفي التكنولوجيا أيضًا، المغزى هنا أن رؤية الأشياء في الصور، حيث لا يوجد مثل هذه الأشياء، قد تؤدي إلى نتائج إيجابية أو نتائج لنقل إنها ليست جميلة أو مثيرة للاهتمام فحسب، بل هي نتائج غريبة تمامًا.

واليوم، إلى حد ما، يمكن استخدام تعريف الباريدوليا الحديث لوصف كيفية ربط القدماء للنجوم، والتي تظهر كالنقاط حينما نظروا إلى السماء، وتوصلوا إلى الأنماط التي نعرفها على أنها الأبراج، فالأمر لا يتطلب قدرًا كبيرًا من الخيال لرؤية أسد في برج الأسد، أو عقرب في برج العقرب، أو القوس أو الجوزاء... إلخ، وأيضا لم يأتِ من فراغ، بل من معلومات مسبقة لديهم واهتمامات جعلتهم يرونها كذلك، وحين تم التحديد و الوصف، يمكننا نحن أيضا أن نراها كما رأوها، خذ على سبيل المثال صورة تعرض عليك فلا ترى ما يراه الآخرون إلا بعد أن يحدد لك أو تكبر الصورة ويتم وصف الشيء لك، حينئذ تراه، وفي أحيان أخرى يكون ما تراه هو ما تفكر به أو يشغل حيزا من عقلك الباطني، فقد يكون أمرًا أو معتقدًا أو فكرًا أنت تؤمن به، فهنا يسعى عقلك إلى البحث عن كل ما يدعم ويؤكد ما لديك، ويسمى الانحياز التأكيدي، فلو أننا جمعنا بين الباريدوليا والانحياز التأكيدي بالإضافة إلى أمر ثالث هو الاستسقاط، والذي يعني المبالغة في ممارسة خلق الروابط ورؤيتها في أمور لا رابط بينها، نكون قد جعلنا من أنفسنا فريسة سهلة لمن ذكرتهم لكم في بداية المقالة.

وأكثر من يستغل مثل هذه الأمور الدجالون في الأمور الدينية أو العقائدية! فيخلقون من الأمر مؤامرة كالهجوم على الدين وتشويهه، أو يجرون الناس خلفهم ليجعلوا من شيء معين مقدسًا أو مزارًا لمجرد ظهور صورة السيد المسيح أو السيدة مريم بالنسبة للنصارى، أو لفظ الجلالة أو اسم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالنسبة للمسلمين، أو حتى صورة القرد بالنسبة للمجوس.

وهنالك طبعًا من يفسر المشهد كرسالة من العالم الآخر، ويقنع الضحية بأنه يجب عليه أن يقوم بعمل ما يعود بالطبع على الدجال أو المحتال بالفائدة المالية، وإن لم توجد هكذا أشياء أو مشاهد، خاصة في عصرنا الحديث، يتم خلقها باستخدام البرامج الإلكترونية مثل فوتوشوب، المهم أن الجاني يعتمد على جهل الضحية بعملية تفسير يقوم بها العقل، وجدت في داخله أساسًا من أجل البقاء، أي التعرف على الأشياء والربط بينها لاتخاذ القرار. والآن أترككم للتفكير وللإجابة عن السؤال: هل سبق أن وقعتم في فخ الباريدوليا؟