بالرغم من أن الشعر كان أكثر الأصداء الفنية لهزيمة 67 ضجيجا، إلا أن الرواية كانت أكثر الفنون استيعابا لأبعاد الهزيمة، وأقدرها على تمثل المأساة.

لقد توقف الشعر والمسرح في معظم الأعمال، التي أنتجها شعراؤنا ومسرحيونا عقب الهزيمة، عند حدود الرؤية الخارجية للأحداث، سواء جاءت أعمالهم ندبا ولطما على ما كان، أو حماسا وهتافا لما سيكون، أما الرواية فقد استطاعت أن تنجو إلى حد كبير من المأزق التقليدي، الذي يحاصر الكاتب غالبا، وهو يكتب عن «مناسبة» أو «حدث سياسي».

وربما كان من الأسباب الهامة لنجاة الرواية العربية من هذا المأزق، هو أنها ظلت طيلة الستينيات، تحاول برفقة القصة القصيرة أن تثور على المفاهيم التقليدية للفن الروائي.. فلما أقبلت هزيمة حزيران عام 1967 لم تكن في انعكاساتها الوجدانية والعقلية أكثر من امتداد علني، لما كانت تكتوي به الصدور في السر، قبل هذا التاريخ بزمن طويل. أقامت الهزيمة الديكور الخارجي المنظور للمشهد الداخلي الذي تعذرت رؤيته قبل ذاك، إلا على أصحاب البصائر النافذة إلى أعماق المجهول. وهم قليلون.

كانت رؤيا الهزيمة هي المناخ الفني السائد على أبناء الأجيال الجديدة، من قبل أن تقع الهزيمة في «حزيران». هذه الرؤيا التي لونت أعمالهم الشابة طيلة الستينيات بالقتامة والسواد.. هذه الرؤيا المشبعة بالسحب والغيوم حتى أصبحت مرادفا للضباب والغموض.. هذه الرؤيا التي اكتشفت خير تجسيداتها في الرمز المثقل بالمعاني، والتجريد الذي يشف عنها، هذه الرؤيا ـ أخيرا ـ كانت عماد التجريب والتجديد، الذي عرفته القصة القصيرة والرواية في أدبنا الحديث طيلة الستينيات، ولقد استطاعت القصة القصيرة أن تسابق رياح التغير العنيف، وأن تحرز الأهداف أكثر مما حققته الرواية. ولكن الرواية بدورها لم تكف ـ وخاصة بعد 67 ـ عن محاولة اللحاق بركب الثورة الفنية الشابة، بل هي تمكنت من استغلال ديكور الهزيمة ـ سواء لتجاوزها أو لتكريسها ـ إلي أقصى الحدود.

وظلت الرواية العربية الجديد بعد 67 تنادي بين الحين والآخر، تفتش بين الأنقاض عن حقائق الماضي، وتتوقف طويلا على أرض الحاضر الخراب، تستعير أحيانا عيني زرقاء اليمامة تكتشف بهما آفاق المستقبل، وهي تجد نفسها في ذلك كله مضطرة لأن تخرج عن نطاق الجاذبية للرواية التقليدية، فتجرب من أدوات التكنيك ورؤى الفكر ما يتواءم مع الأحاسيس والمدركات الجديدة، التي تطارد وجدانات الكتاب وعقولهم بلا هوادة. وهم يحلقون في أجواء محفوفة بكل مخاطر المجهول.

ومن الطبيعي أن تختلف إنجازات الرواية الجديدة من كاتب إلى آخر، اختلاف التجرية والثقافة والفطرة، ولكنهم ـ أولئك الروائيين ـ يعودون فيلتقون في أن حزيران كان نبع رؤاهم، من قبل أن يقع وبعد أن وقع. ثم يعودون فيلتقون في أن حس الهزيمة المشترك بينهم، قد شارك بنصيب فعال في صهر الوعي القومي للرواية العربية، فربما كانت هذه المجموعة من الأعمال التي اتخذت من مأساة 67 محورا لها هي أكثر الأعمال الروائية، التي رسخت كيانا «عربيا» للفن الروائي، لا بمعنى الانفصال عن مؤثرات الغرب الفنية، ولا بمعنى البحث عن أصول تاريخية لهذا الفن في كهوف التراث العربي، ولكن بمعنى وحدة العقل والوجدان، بين الكاتب المصري والكاتب السوري، والكاتب الفلسطيني والكاتب الأردني والكاتب اللبناني، تجتمع غالبية أولئك الروائيين أيضا، مهما اختلفت أعمارهم وتواريخهم الفنية، حول ناصية التجديد في بنية الرواية العربية تجديدا ثوريا، من شأنه أن يتجاوز بهذا الفن الجماهيري الرفيع أعتاب المرحلة التمهيدية.