الجاهلية ليست قسمة بين مؤمنين وكفار كما تريد إفهامنا الحركات الإسلامية، فمن يسترجع المعنى الأصلي لكلمة (الجاهلية) في التراث العربي قبل الإسلام يجد أن عمرو بن كلثوم يقول (ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا) أي بمعنى (مجاوزة الحد)، فالجاهلية في التراث العربي ليست ضد العلم بل هي وصف لسلوك اجتماعي يتسم بالتعصب والتجاوز في الحد، ولهذا فوصف الحرب بالجاهلية ينطبق على حرب (البسوس) بين العرب، كما ينطبق على حرب الثلاثين عاماً بين ملوك أوروبا.

(إنك امرؤ فيك جاهلية) قيلت لرجل يعيش عقدة عنصرية تجاه لون أو عرق حيث تجاوز الحد في تضخيم عرقه ولونه، فلماذا تحول المعنى ليصبح في نظر الحركات الإسلامية مقابلا (للإسلام)، بالرغم من أن (الجاهلية) سلوك اجتماعي قد يتسم به المسلم والمسيحي والبوذي واللاديني، فلا علاقة له بالأديان ولا علاقة له بإيمان أو كفر، والذي حصل أن الحركات الدينية استعادت (الجاهلية) بإعادة التأويل الديني للإنجيل مثلاً فنشاهد حرب الثلاثين عاما بين المذاهب المسيحية كل مذهب يريد سحق الآخر وإلغاءه، حيث تجاوز كل مذهب حده في تضخيم ذاته مغفلين حقيقة السنن الكونية في طبيعة الاختلاف وضرورة التعايش، وفق (الحقيقة النسبية) عند كل طرف دون تغول عقائدي لا قيمة له إذا زاد عن حده ليتحول إلى توحش يستبيح الحرث والنسل لكل من خالفه.

(الجاهلية) أحياناً قد تمتد على مستوى الأسرة والمدرسة عندما يصر الأب/ المعلم على فرض ما عاش عليه قبل عقود فيقع في (جاهلية) تربوية تلغي تغير الزمان والمكان والظروف، فيتحول المنزل/المدرسة إلى صراع مرير يسمونه (صراع الأجيال)، بينما الأب/المعلم الذي تجاوز هذه (الجاهلية) لن يجد إشكالاً في تفهم لغة زمن أبنائه/طلابه، بينما من يعيش (الجاهلية) تجده يقول بكل ما في (الجاهلية) من تجاوز للحد واستكبار وإلغاء للمنطق (آباؤنا/معلمونا كسروا العصي على رؤوسنا وظهورنا، وها نحن تربويون ناجحون ونفكر بشكل سليم) بينما منطق الحياة يقول: كيف تدعي التربية وسلامة الفكر وأنت عاجز عن اكتشاف أساليب تربوية تتجاوز ما اعتادته الدواب مع راعيها من خلال مثلث حياتها معه (العصا، الغذاء، السكين)، بل كل دراساتك الأكاديمية في التربية وطرق التدريس مجرد ملح وذاب في ماء (الجاهلية) الذي لم تستطع الخروج من مستنقعه تجاه أبنائك وتلاميذك.

(الجاهلية) كلمة تدل على نقص في ضبط النفس والغرائز، ولهذا نجد في بعض مناطق الجزيرة العربية يسألون الإنسان عن أطفاله بقولهم: (كيف حال إمجهله/الجهله) فالجاهل من دلالاتها (الطفولة)، وتقال أيضاً عند العرب لمن لا يملك الحد الأدنى من تحكيم العقل وضبط السلوك، فيقال: فلان جاهل كمعنى يدل على ضرورة التجاوز عنه لأنه ليس ممن يطلب منه حق أو يؤخذ منه، فالجاهلية لا يقابلها إسلام أو مسيحية أو أي دين آخر، بل يقابلها وصف فكري وسلوكي معاكس لها، فيقال هذه أقوال أو أفعال (جاهلية) وتقابلها هذه أقوال أو أفعال (عقلانية)، (الجاهلية) نقيضها (العقلانية)، علماً بأن كلمة (الدوغمائية) التي نستخدمها أحياناً تدل على معنى تقني في التعاطي مع الأفكار، بينما كلمة (جاهلية) تدل على معنى اجتماعي أكثر تجذراً وبنيوية في دلالته التاريخية التي اختطفها الإسلاميون عن مسارها اللغوي الصحيح وحولوها إلى إيديولوجيا للتكفير، مثلها مثل (الحاكمية والإمامة) التي يهرب السلفي من معناها الحركي الإخواني، لكنه يفشل في الهرب من معناها الفقهي المختزل في (قريش)، فيتأولها بفقه غلبة القاتل على المقتول، غافلاً عن نظرية العقد الاجتماعي الحديثة التي خرجت من رحم حرية العقل والإنسانية في (لا ونعم)، ولم تخرج من رحم النطع والسيف في (إمَّا وإمَّا).

(الجاهلية) كلمة تجاوزت بها الحركات الإسلامية دلالاتها العربية إلى دلالات تكفر بها العباد والبلاد، لتكون هذه الحركات الدينية تجلياً لمعنى (الجاهلية) في كل زمان ومكان عندما تتمكن في القلوب باسم الدين أو العرق أو اللون أو الطائفة، وكما استطاعت (العسكريتاريا العربية) إنتاج (الجاهلية) بتجاوز الحد في معنى العروبة والبعث العربي ليصبح مختزلاً في أصنام تعبد من لحم ودم، فقد جاءت (الأصولية الدينية) عبر الحركات الإسلامية بتجاوز الحد في دعوى النبوة فتمنح صكوك غفرانها لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء، فكأنما (العسكريتاريا العربية) و (الحركات الإسلامية) تعيشان مع بعضهما حياة الجاهلية الأولى التي حكاها الشاعر في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا، فاستمرأوا هذه (الجاهلية) كلازمة يبدؤونها بجمع الناس في المساجد لرص الصفوف في الصلاة وهم خاشعون، وينهونها بجمع الناس في الشوارع لرص الصفوف في المظاهرات وهم صارخون بأيمان مغلظة (أن الخلافة الإسلامية قادمة)، يريدون فعلها وتكرارها حتى مع دول أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف.