في التاسع والعاشر من (أكتوبر) 2010 انعقدت قمة عربية استثنائياً في سرت (ليبيا)، وكانت الثانية في ذلك العام، بعدما وجدت الدول الأعضاء، في القمة الأولى (أواخر مارس) أن ثمة قضايا مطروحة تطلّبت درساً قبل حسم المواقف منها. كان البندان الأكثر إثارة للجدل تعلّقا بالإصلاحات المطلوبة للجامعة العربية في إطار «تطوير منظومة العمل العربي المشترك»، وبمشروع للأمين العام للجامعة آنذاك عمرو موسى حمل عنوان «أسس سياسة الجوار العربي واقتراح إقامة رابطة الجوار الإقليمية وآليات عملها». ألحّت الأوضاع العربي بالحاجة إلى اتفاقات عملية في هذين البندين، ولم يكن القادة العرب يشعرون بأن المنطقة العربية على بُعد شهرين ونيّف من التحوّلات التي أطلقتها الانتفاضات الشعبية.

بحثت القمّتان أيضاً في: «إزالة الخلافات العربية» التي استمرّت وتعمّقت، والعمل على إنجاز «المصالحة الفلسطينية» التي لم تتمّ حتى الآن، ودعم الجانب الفلسطيني في اشتراطه «وقف الاستيطان» الإسرائيلي للعودة إلى المفاوضات المباشرة أو اقتراح بدائل منها «المؤتمر الدولي» من قبيل الضغط على إدارة باراك أوباما لتضغط بدورها على إسرائيل... وتتضمّن المواقف العربية الحالية الدعوة نفسها إلى «مفاوضات مباشرة» من دون شروط لكن مع تحديد الهدف، وهو «حل الدولتين» لإقامة «دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية»، علماً بأن إسرائيل أمعنت ولا تزال في عرقلة هذا الحلّ وإفساده، وهي ماضية في قضم أراضي القدس الشرقية وتهويدها.

ليس معلوماً كيف ستتعامل إدارة جو بايدن مع خطّة دونالد ترمب المعروفة بـ«صفقة القرن»، والمتوقّع أن تتمسّك إسرائيل بها، أما العرب فمدعوون إلى انتهاز فرصة قد تكون متاحة لطيّ صفحة هذه «الصفقة» بل إنهم مدعوون خصوصاً للإصرار، فعلاً وقولاً، على سلام ينصف الشعب الفلسطيني في أرضه وحقوقه، ففي ذلك مصلحة عربية يصعب إنكارها. وبوجود بايدن ونائبته كمالا هاريس، اللذين سبق أن جهرا بـ «صهيونيتهما» بالصوت والصورة، لن تعدم إسرائيل دعم الإدارة الجديدة واعتبار أن ما حصّلته على حساب الفلسطينيين هو لها، وما لم تحصّله بعد فهو لها وللفلسطينيين.

لم يكن هناك خلاف عربي - عربي كبير حول الشأن الفلسطيني، كما هو حاصل الآن نظراً إلى غياب التشاور والتنسيق وغموض النتائج، وبفعل التداخل الإيراني والتركي في هذا الملف، لكن أيضاً بفعل توالي اتفاقات التطبيع العربي - الإسرائيلي. اختلف كثرٌ من الباحثين العرب والإسرائيليين والغربيين في شأن هذه الاتفاقات، لكنهم يقرّون بأنها تؤسس لمرحلة جديدة ستظهر مفاعيلها لاحقاً، بل يعتبرون أنها أصبحت خطوة عربية متقدمة لحسم التنافس الإقليمي على ملء «الخواء الاستراتيجي» العربي، وفقاً للمصطلح الذي أطلقه الراحل سعود الفيصل في قمة سرت الثانية المشار إليها.

خلال العقد الماضي تبدّت للعواصم العربية الأساسية ملامح الضعف والتهديد والاستهداف التي ألمّت بالعرب، ومن هنا جاءت فكرة الحوار مع دول الجوار لئلا يكون العالم العربي عرضة للحصار والتدخّلات. لم تُرفض الفكرة مبدئياً، لكن الاعتراضات كانت كثيرة: الحوار من موقع الضعف لن يجدي. الأولوية يجب أن تُعطى لترتيب البيت العربي. أي روابط مع الجوار لن تكون ممكنة إذا لم تجزها واشنطن... والأهم أنه كانت هناك تقويمات عربية مختلفة وأحياناً متناقضة لسلوك دول الجوار المقترحة (تركيا وإيران وإثيوبيا وإريتريا وتشاد، والأخيرة أضيفت برغبة من معمر القذافي على ما يبدو).

باختصار، لم يكن العرب جاهزين لحوار أو لـ«رابطة» كهذه، ولا حتى مع تركيا التي كانت موضع إشادة في ذلك الوقت، بل إن رجب طيب إردوغان رئيس وزرائها آنذاك دُعي لحضور قمة سرت. أما إيران فلم تكن مقبولة في «الفضاء العربي»، وكان كافياً أن تتحفظ مصر والسعودية عن الحوار معها لكي تُطوى المسألة، فالأدوار التخريبية التي قامت بها طهران في العراق ولبنان وغزّة دلّت إلى مشروع يستهدف المنطقة بأسرها، وصار أي تفاوض عربي معها محكوماً بـ«النفوذ» الذي بنته بقوى مسلحة خارجة عن أي سلطة شرعية. يُضاف إلى ذلك أن مشروع «رابطة الجوار» كان يستثنى إسرائيل تلقائياً ويؤدّي غلى محاصرتها سواء كان هذا هو الهدف أم لا، وبديهي أن أمريكا لن تحبّذ هذا التوجّه بل ستحبطه. وبالتالي أضيف إلى عدم جهوزية العرب أنهم تأخّروا في طرح هذا الخيار الاستراتيجي.

ذخر العقد الماضي، غداة غزو العراق تحديداً، بالأبحاث الاستشرافية التي اعتبرت ذلك الغزو مكسباً استراتيجياً تاريخياً خالصاً لإسرائيل، واستنتجت من «التقاسم الوظيفي» غير المعلن وغير الموثّق بين الأمريكيين والإيرانيين في العراق أن ثمة أمراً واقعاً استراتيجياً قد تبلور، استناداً إلى أن إيران تعاونت بأساليب عدّة مع الغزو الأمريكي. واستطراداً فإن موقع تركيا رشّحها أيضاً لأدوار استراتيجية. أي أن الدول الثلاث وجدت أمامها فرصاً ومكاسب ينبغي أن تستغلّها بعد الاختلال الثالث الأقوى في التوازنات العربية.

كان الاختلال الأول بخروج مصر من المواجهة وعقدها صلحاً مع إسرائيل وتكرّست مذّاك معادلة «لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية». أما الاختلال الثاني فحصل مع الغزو العراقي للكويت والتدخّل الدولي العسكري الذي استوجبه، فضلاً عن نتيجته المباشرة التي اضطرّت العرب إلى توكيد تخلّيهم عن خيار الحرب مع إسرائيل (مؤتمر مدريد). كسبت إسرائيل في المرّات الثلاث ولم تبدِ حتى الآن أي نية في سلام حقيقي. وكسبت إيران بمحاولة ملء الفراغ ووراثة الملفات والقضايا العربية، وهي أيضاً لا تحمل أي سلام أو استقرار للمنطقة. أما تركيا فقفزت إلى الاستحواذ على «الإسلام السياسي» كوسيلة لتحقيق مكاسب ونفوذ، بدءاً من سورية ثم ليبيا وغيرها. وأما إثيوبيا فتفتعل التعنّت في مفاوضات «سدّ النهضة» متخذةً من النيل أداةً للنفوذ... وهكذا فإن «النظام العربي» الرسمي فشل في احتواء الجوار الإقليمي، لكن فشله في ترتيب البيت الداخلي كان أكثر فداحةً.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»