ولا يغيب عن المطلع أن المرأة باستثناء الخمسين سنة الماضية، كانت بالعموم تعامل كالملكية الخاصة في المجتمعات الغربية -ناهيك عن غيرها-، وعلى مدى التاريخ كانت المرأة جنسًا ثانيًا، وأقل من جنس الذكر، ولهذا كانت المرأة تحصل على قدر محدود من التعليم، ولم تكن الأعمال متاحة لها إلا في مهن محددة، فضلًا عن الحقوق السياسية التي لم ينظر فيها للمرأة من أساسه، كحق التصويت أو الترشح للمناصب.
والحكاية أبعد وأعمق من الخمسين سنة الماضية، كما بيَّنت ذلك في مقالي (النساء: أطول ثورة في التاريخ)، فحكاية المرأة في عالمنا تستحق أن تروى، ففي البدء لم يكن ثمة جندر البتة، ولا مكان للنزعة الفردية؛ فالكل إنسان، والكل سواء، امرأة أو رجل، المرحلة الفاصلة التي أنهت وجود الإنسان السوي على وجه الأرض كانت باكتشاف الزراعة قبل عشرة آلاف سنة تقريبًا، حيث تشكلت على إثر هذا الاكتشاف الطبقية بمرور الوقت؛ نتيجة عاملَين أولهما: الملكية الخاصة التي ظهرت بسبب الاستقرار في مناطق محددة أصبحت فيما بعد قرى صغيرة، وبدأ الإنسان في زراعة أرضه والارتباط بها؛ ما أدى إلى تشكيل مدونات للتملك، لمنع نشوب الخلافات، وهنا ظهر مَن يملك ومَن لا يملك، والعامل الثاني: هو فائض الإنتاج الذي دفع إلى التفكير في تقسيم العمل؛ فلا حاجة أن يعمل الجميع بالزراعة، وهنا بدأ تشكل الطبقية والتمايز بين البشر، فانطلق النزاع بين الجنسين، والذي امتد حتى يومنا هذا.
النظرة الدونية لجسد المرأة، هي مفتاح النظرة للمرأة كإنسان اليوم، ولا أظن من وجهة نظري أن هذا الأمر هو الذي أدى في البداية إلى تحويل المرأة إلى إنسان درجة ثانية، وأراه أتى لاحقًا كتبرير فج ووقح لطبيعة التعامل مع المرأة بهذا الشكل المهين، عندما (نَسيت/عَجزت) الأجيال المتعاقبة من الذكوريين -والذين يضمون فيمن يضمون بينهم بعض النساء- السبب الرئيس في التمييز الجندري، والذي أشرنا إليه آنفًا، ولذلك تذكر سيمون دوبوفوار في كتابها الخالد، (الجنس الآخر،1/31): «يقول هواة الصيغ البسيطة: المرأة؟ هذا بسيطٌ: إنها رحمٌ، ومبيضٌ؛ إنها أنثى: وهذه الكلمة كافية لتعريفها. يتردد نعت «أنثى» في فم الرجل كإهانةٍ، مع ذلك هو لا يخجل من حيوانيته، على العكس من ذلك، هو يفخر حين يقال عنه «إنه ذكر»! وتعبير أنثى هو تحقيريٌّ ليس لأنه يغرس المرأة بالطبيعة، ولكن لأنه يجعلها أسيرة جنسها. إذ بدا هذا الجنس للرجل محتقرًا وعدوًا حتى لدى الحيوانات البريئة، فهذا بالطبع بسبب العدائية القلقة التي تثيرها المرأة لديه؛ وهو يريد مع ذلك أن يجد في البيولوجيا تبريرًا لهذا الشعور».
ومن طريف القول، ومضحكه، أن الذكر سبب بؤس الأنثى الأول، هو في الوقت ذاته السبيل الأوسع، لرفع هذا البؤس، متى ما اقتنع بأحقيتها وحقها واستحقاقها، اقرؤوا معي ما ذكرته «شيلا روبتهام» في مدخل كتابها المهم، الذي ترجمه الراحل جورج طرابيشي (الثورة وتحرر المرأة، ص5): «لئن وعت النساء دورهن الثوري، فالفضل في ذلك يرجع إلى أفكار وأعمال ومنظمات تصوَّرها وأبدعها رجال في المقام الأول. وقد توصلنا إلى معرفة أنفسنا في مجتمعات تسيطر عليها القوة المذكرة وحضارة مذكرة. ولا يسعنا أن نتطلع إلى التغيير إلا في إطار حركة ثورية يحددها الرجل، ونحن نحتل المرتبة الثانية حين يدور الكلام عن الإخاء أو عن تحرير الإنسان بوجه عام، وهذا النسيان الذي يضعنا على هامش التاريخ ليس وليد الصدفة، وإنما يعكس وضعنا الفعلي في مجتمع وحركة يخرجان تمامًا عن سيطرتنا، والحق أن دونيتنا ضاربة جذورها عميقًا في نفوسنا إلى حد كان علينا معه أن ننتظر تحرير المرأة حتى ندرك مداها، وهذا النسيان هو الذي يفسر القلق ورد الفعل العنيف والرفض اللاإرادي الذي قابلت به بعض النساء الحركة الثورية ذات الإلهام المذكر في أعقاب يقظة وعيهن النسوي المحض».
على كلٍ، خطفت جزءًا من عنوان المقال من العجوز إريكا يونغ، والتي تعد روايتها الأولى (الخوف من الطيران) من أهم سرديات الموجة النسوية الثانية- سنتحدث عن هذه الموجة في المقال القادم-، إريكا جعلت المرأة في هذه الرواية كتابًا مفتوحًا سلطت على سطوره ضوءًا ساطعًا، نقرأ ما بداخله، ومن أجمل ما قالت فيها: «قبل أن تبدأ النساء بتأليف الكتب لم يكن هناك إلا جانب واحد للقصة...إلخ»، وتقول في أحد حواراتها: «النسوية: فعليًا هي حقوق النساء في أن يكنّ بشراً كاملات البشرية، وألا يتم تعريفهن في حدود وظيفة إنجاب الأطفال».
أخيرًا، سأختم بإحدى عبارات سيمون دوبوفوار في كتابها (الجنس الآخر)، وفيها كل المغزى حول قضية المرأة في الحياة الدنيا، حيث قالت: «لا تولد المرأة امرأة، ولكنها تصبح كذلك».