قد لا يعجب الحديث حول التخطيط اللغوي الممنهج أولئك الأشخاص الذين يعتقدون أن التطور اللغوي وحده هو الذي يتحكم في مسيرة اللغات عبر التاريخ. صحيح أن اللغات تتطور، ولكنها تتطور ببطء شديد، وفي ظل تحولات حضارية كبرى، وهذا لا يعني أن التطور لا يمكن توجيه سيره تجاه مسارات مرغوبة ومحددة مسبقا، ونجاح مجتمع ما في التحكم بالوضع اللغوي بين أفراده يعكس مدى التقدم الفكري لهذا المجتمع، وكثير من التجارب الأوروبية في مسألة التخطيط اللغوي لدعم اللغة الوطنية داخل الدولة من خلال التعليم والإعلام والإدارة وفي الحياة اليومية تعد نماذج جادة في هذا الاتجاه.

في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية نماذج ناجحة للتخطيط اللغوي، فتعريب الدواوين واستحداث نظام التنقيط في الأبجدية العربية ووضع علم النحو والصرف وتأسيس المعاجم ودعم الترجمة، كلها شواهد حية على نجاح أهداف التخطيط اللغوي للغة العربية قديما. وبفضل هذه المجهودات العلمية الكبيرة، نستطيع اليوم تعلم اللغة العربية وتعليمها لتكون نقطة انطلاق نحو نشر اللغة العربية الفصيحة في المجتمع، فلا شك لدينا أن اللغة العربية تعيش تحديات كبرى في العصر الحديث في ظل عجز أبنائها عن التخطيط لها في سبيل دمجها في المجتمع من جديد.

فاللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن والتراث والانتماء الثقافي، فهي أكثر من مجرد أداة للتواصل بل تعتبر أهم المكونات التي تحدد الانتماء الحضاري إلى جماعة إنسانية موحدة، تعيش في فضاء جغرافي محدد، وتشترك معه تاريخا وتراثا وثقافة. وهذه اللغة تعيش واقعا اجتماعيا محاطا بالتحديات في ظل اتساع الفجوة بين العامية والفصحى، فالعامية اليوم تهيمن على وسائل الإعلام غير المطبوعة، وغالبا ما تسود العامية لغة المذياع والتلفزيون والأفلام السينمائية والمسرح، فضلا عن هيمنة اللغة الأجنبية -الإنجليزية تحديدا- في الفضاء التعليمي والتربوي في المدارس والجامعات.

فمن أهم النتائج السلبية وأخطرها تلك النتائج المترتبة على هيمنة اللهجات العامية وغزو اللغات الأجنبية للمؤسسات التعليمية، تتعلق بعملية التفكير التي تكتسب من خلال النظام اللغوي الأكثر رسوخا الذي يكتسب في مراحل التعليم المبكرة، ولا يخفى علينا أن أطفالنا يتعرضون للغات الأجنبية في سن الحضانة ورياض الأطفال، وفي المدارس الحكومية يبدأ تعليم اللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية وهي مرحلة مبكرة جدا.

التخطيط اللغوي ليس اعتباطيا بل له أهداف محددة ومقصودة، ويحمل رؤية مستقبلية من خلال عمل مؤسسي منهجي، لذا يجب أن يبدأ مع التعليم لأهمية اكتساب اللغة في عمر مبكر، مع تفادي مشكلة تعرض أطفال الحضانة لأي لغة أجنبية قبل أن تكتمل لديهم اللغة العربية، ومن هنا يجب اقتصار تعليم اللغات في مرحلة الحضانة ورياض الأطفال والابتدائي على اللغة الوطنية، أي اللغة العربية وحدها.

فاللغة ليست موازية للهوية بل هي أحد مكوناتها النشطة التي لا تنفصل عنها بل تتأثر بها وتؤثر فيها، فبين الهوية واللغة علاقة جدلية، والطفل عندما يتعلم لغة أجنبية في مراحل التعليم المبكرة، لا يتعلم اللغة بمعزل عن ثقافة وهوية أهلها، لذلك كان تعليم اللغة الأجنبية في مراحل التعليم المبكرة من المحظورات التربوية في كثير من بلدان العالم.

وفي المرحلة الجامعية، فإن غربة اللغة العربية تتجلى في التخصصات العلمية، فلا صوت يعلو فوق صوت اللغة الإنجليزية بحجة تلبية متطلبات سوق العمل، وتبني مثل هذه المفاهيم الخاطئة أدى لتراجع مكانة اللغة العربية في التوظيف وخاصة في الشركات والبنوك، واقتصار الوظائف على من يتقنون اللغة الإنجليزية، فضلا عن غياب مشروع التعريب في الجامعات الذي يعتبر أهم خطوات التخطيط اللغوي، فقرار التعريب هو قرار التخطيط للغة العربية، مع ما يتضمنه ذلك من إنشاء هيئات ومجامع لغوية لصيانة اللغة والحفاظ عليها مع التنسيق بين المجامع اللغوية في سبيل وضع المصطلحات وتوحيدها ووضع المعاجم ومراكز الترجمة الفاعلة وإحياء التراث، ومثل هذه التحركات تمثل تخطيطا للغة بامتياز. فنشر اللغة وتمكينها في التعليم يمثل أولى خطوات تخطيط استعمال اللغة داخل أي فضاء اجتماعي.