لا يبدو غريبا على الإطلاق أن نسمع عن خلافات تنشب بين جيران قاطنين في عمارة سكنية واحدة، أو حي واحد، وإن كانت مبرراتها تختلف باختلاف أطراف، كما تتخذ أشكالا ونهايات متباينة تبعاً لحجمها، حيث تبلغ حدا بعيدا يستلزم استدعاء الجهات الأمنية وغيرها لإنهائها، أو تبقى في حدود أخف وتنتهي بالقطيعة.

وإذا كانت بعض الخلافات تنفجر لأسباب جوهرية وعميقة، فإن بعضها الآخر يبدو ساذجا وبسيطا في الآخر، لكنها في كل الأحوال تبقى قصص الناس ويومياتهم التي تستحق التأمل والرصد.

جار صدامي

يصف محمد عبدالكريم جاره بأنه «صدامي»، ويكمل جاري دائم الانتقاد لأبنائي، لا يريد أن يسمع أي صوت صادر من شقتي حتى لو كان عفوياً، وحين يصدر ذلك الصوت فإنه يطرق بابنا، ويكيل لنا الشتائم، وهذا اضطرني للجوء إلى مركز الشرطة لتوقيعه على تعهد بمنع التعرض لنا».

من جانبه، يقول العم عبدالرحيم الصيرفي «لدي جار حشري، يستمر في ملاحقتي ومراقبة أفعالي، ووصل به الأمر حد تفتيش النفايات التي ترمى عند باب شقتي، وهو يتهمني وأبنائي بأننا نتعاطى المخدرات».

ويضيف «ربما ما زلت أدفع ثمن نصيحة قدمتها له بأن يصلي في المسجد، ومن وقتها وهو يتتبع خطواتي ويتهمني اتهامات غير سوية، ما جعلني أعرض شقتي للبيع، رغبة في الانتقال لحي آخر بعيد عنه».

اختلاف قبلي

يؤكد سامي الغامدي، الذي يسكن أحد أحياء جدة أنه منذ قدِم إلى الحي والجيران يعدّونه غريبا ويتجنبون التواصل معه، لأنه ينتمي لقبيلة غير قبيلة معظمهم، ويقول «جيراني يفضلون أن يكون جيرانهم من قبيلتهم، وقد لجأت إلى إمام المسجد وشرحت له الأمر، وتولى مهمة إصلاحه.. يبدو أن اختلاف الانتماء يقود فعلا إلى فتور العلاقات بين الجيران».

مفاهمة وود

يرى المستشار الأسري صالح اليامي أن «العلاقات بين الأشخاص لا بد أن تقوم على المفاهمة والود، والتغيرات الاجتماعية التي طرأت خلال السنوات الأخيرة أثرت على القيم الرفيعة والطيبة التي كانت سائدة قديما».

ويضيف «اللافت أن العشوائيات ما تزال تحتفظ بقوة العلاقة وعمق التواصل بين الجيران، حيث نلحظ الترابط الشديد فيها بين الجيران؛ ربما لقرب منازلهم من بعضها بعضا، ما أسهم في سهولة التواصل بين قاطنيها، وخوفهم على بعضهم بعضا، ومشاركة الجار لجاره في كافة مناسباته، ما خلق روح الود والوئام بينهم، عكس الحال في الأحياء المتطورة حيث يقل فيها التواصل».

المباني العالية

سلطت دراسة منشورة سابقا، للدكتور عبدالرحمن العمري والدكتور وجدي عبداللطيف، حملت عنوان «الأبعاد المجتمعية لإسكان شقق التمليك ـ دراسة ميدانية ببعض أحياء مدينة جدة» الضوء على عدة دارسات، مؤكدة أن نسبة العلاقات الاجتماعية بين السكان لا تزيد بكثرة عددهم، وإنما تعتمد على الزيادة في نسبة تقابلهم، وأن سكان المباني العالية قد يجدون صعوبة في بناء علاقات مع الجيران، أو قد تكون علاقات ذات عمر قصير، وتنمو هذه العلاقات عند التقابل في المناطق المشتركة مثل المصاعد وصالات المداخل والجراج.

ودلت الدراسات على أن جيرة المداخل الخارجية في المساكن المنفردة الأفقية تزيد من فرص التعارف أكثر من جيرة المداخل الداخلية بالمباني العالية.

وأثبتت الدراسات أيضاً أنه كلما كان مستخدمو صالة مدخل الوحدات السكنية قليلاً، كلما زاد التعارف بينهم، فالمباني المرتفعة والأبراج العالية بنيت لتأوي المستخدمين لها كأفراد أو كأسر مستقلة، لا لتجمعهم كمجتمع واحد تربط بين أفراده علاقات اجتماعية.

قادت المباني العالية إلى تحجيم علاقة الأفراد داخل البيوت وخارجها، كما أدت إلى عدم تجاوب السكان مع الخارج، وقللت من فرص تقابل الناس مع بعضهم بعضا، وتعاملهم على مستوى الشارع والحي، وعدم انتماء الناس إلى بعضهم، وعدم تعاملهم على مستوى الحي، قد يساعد هذا على تحلل حضارتهم واكتسابهم قيماً جديدة لم تكن مناسبة للناس السابقين ولم تظهر في المجتمعات التي سبقتهم، فالأسرة تجد نفسها بين يوم وليلة محاطة بأسر غريبة عنها، لا تربطها بها علاقات قرابة أو صداقة أو معرفة، والغربة هي أساس التواجد في هذه التجمعات العمرانية التي يسيطر عليها نوع من العزلة الاجتماعية، وهذا نقيض ما كانت عليه الأسر الخليجية وما ترعرعت وسطه من بيئات اجتماعية حية ومتعاونة، فقد كان «الفريج» أو «الحي» وحدة اجتماعية تتشابك فيه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في ظل تكامل وتعاون وإيثار.

وكانت الديوانية ذات دور مهم ليس في المجال الاجتماعي فحسب، بل وكذلك في البناء الاقتصادي والحياتي، وكان للمناسبات الدينية دور بارز في تقوية هذه الوحدة الاجتماعية، فاللقاءات لا تتم بين أفراد الأسرة فقط، وإنما بين أهل الحي بكامله. وحتى الأنشطة الترفيهية مع قلتها وبساطتها كانت تبث الروح الجماعية المتعاونة، أما اليوم فالتجمعات السكانية العمودية ليست سوى امتدادات بنائية عمرانية وليست اجتماعية.

المدنية وتأثيراتها

يؤكد المستشار الأسري عبدالسلام الصقعبي، أن «المدنية تتحمل جزءا كبيرا من مشكلة فتور العلاقات بين الجيران، وكذلك انتقال الناس من المكان الضيق كالقرى والأحياء الضيقة التي كانت تعيش فيها الأسر إلى محيط أوسع ومبان منفصلة كالشقق السكنية التي تتوسطها الشوارع الواسعة، ما قلص علاقات الجيران».

ويضيف «يلعب اختلاف الثقافات دورا في انفصال الجيران وعدم التواصل بينهم، وهنا لا بد للمعنيين من لعب دور مؤثر مثل أئمة المساجد الذين عليهم حث المصلين على التواصل وإعادة روابط الجيرة الحسنة، كما لا نغفل دور مراكز الأحياء التي يمكنها تقوية علاقات الجيران، كما أن لجوء كثير من الأسر للتواصل مع الجيران عبر برامج التواصل الاجتماعي دون تواصل مباشر أدى لفتور العلاقات، وقد يتسبب في انقطاعها».

أسباب الفتور

التغييرات الاجتماعية

التغير العمراني

تقلص مساحة الأحياء الضيقة لحساب الحديثة

انتشار الأبنية العمودية على حساب الأفقية

انتشار وسائل التواصل

اختلاف الثقافات

قلة الأنشطة الترفيهية الجماعية

غياب الأدوار المجتمعية التي تجمع الجيران