كلما قرأتُ لهذا العقل المنفتح على دروب المعرفة والعلم، ونظرتُ في كتاباته ومؤلفاته، ازددتُ يقيناً أن العلم والمعرفة لا يمكن أن يُدركهما إلا من جعل روحه وعقله وجميع أجزاء حياته للعمل والمعرفة، وترسخ اليقين لدي أن إشكاليتنا المعرفية والثقافية والوظيفية والأمنية تكمن في الضعف الشديد في الإهمال المعرفي والعلمي، وهذا ما جعل التراكم السطحي للعبث المعرفي الذي نشهده في مجتمعاتنا، وما يتخللها من إشكاليات تنمو وتتضخم وتصبح وكأنها هي العلم والمعرفة، وأصبحت القراءات العميقة للعلم والمعرفة وكأنها أمر شاذ ويصبح من ينتهج نهج تلك القراءات العميقة غير مرحب به في أغلب الأوساط، بل يحارب من كان هذا منهجه في الفهم والرؤية والطرح العلمي والمعرفي. ومن تلك الإشكاليات التي لما يتم بحثها بعمق ورؤية معرفية عميقة، ماهية الرأي العام وكيف يمكن أن نتصوره، وما ماهية الرأي العام أصلاً، وهل يوجد شيء اسمه الرأي العام، ومن المسوؤل عن تشكيله وتكوينه، وهل كانت هناك مناقشات علمية بين علمائنا ومفكرينا حول هذا الأمر الذي يتضمن حياة كل فرد من المجتمع؟ وكان من ضمن ما اكتسبته من خبرات معرفية وعلمية من كل العلماء والمشايخ والمفكرين والأساتذة، من فقهاء وأصوليين ونحاة ومفسرين وقانونين سواء الأكاديميون أو من غير الأكاديميين عند دراسة موضوع أو بحث مسألة، هو أن أتحلى بالصبر والقراءة الممتدة زمانياً ومكانياً كي يمكن أن أصل إلى نقطة يترجح لدي الاحتمال أنني قد أصل لفكرة شبه شاملة، كي أتبنى رأياً محتملاً للرجحان، وبعد ذلك يتم التتبع والاستقراء لكل ما يتعلق بتلك المسألة، بحثاً عن أي شيء جديد يمكن أن يُضيف إلى رأي الرجحان الذي كنتُ أتبناه. ومن هذه الموضوعات، موضوع الرأي العام، فقد وجدتُ معركة أدبية ومعرفية وعلمية عميقة بين العالم والأديب الذي قدمتُ شيئاً من ذكره في مقدمتي، ومنصور فهمي حول الرأي العام. فقد كتب طه حسين مقالا بعنوان «وعلى ذكر الرأي العام أيضا»، وكان لا يزال يدرس في جامعة مونبليه بفرنسا سنة 1915، وكان ردا على صديقه الدكتورمنصور فهمي وبعض الكتاب، وذلك إدراكا منه لخطورة الرأي العام، حيث إنه اعتبره أكبر عدو للعلم، ويعني بذلك الرأي العام. ومن خلال هذا المقال نشأ لدى طه حسين تبني مذهب التلطف للرأي العام وتملقه. فكان ملخص الخلاف بين طه حسين والدكتور منصور فهمي وآخرين، حول ماهية الرأي العام، والفرق بينه وبين ما يختلط معه من المصطلحات الأخرى التي تجعل صورته غير متميزة والحكم عليه غير ميسور، فيُقرر طه حسين أن الرأي العام قد يختلط في كثير من الأحيان بالذوق العام، أو الحس المشترك، لذا فإنه يُفرق بينهما، فيقرر أن الذوق العام أخص مميزاته الثبات، فهو قلما يتغير، وهو راسخ لا يتحول إلا ببطء، وكذلك العوامل المؤثرة فيه قديمة عامة، قلما يظهر فيها تأثير الزمان والمكان، فالصدق واستبشاع الكذب تتفق فيه كل الأمم، وكذلك إيثار الفضيلة وبغض الرذيلة والخوف من الموت وحب الحياة، كلها أمور لم تنتج إلا عن الذوق العام ولا مدخل للرأي العام فيها، بيد أن الرأي العام على العكس من ذلك تماماً، حيث إنه يتغير على مر الأزمان واختلاف الأمكنة، ويؤثر فيه تعاقب الحوادث وتباين الأطوار التي تصيب الإنسان. الرأي العام ليس نتيجة خالصة لما ينشأ الإنسان عليه من ضعف، وما يملك قلبه من عواطف وما يصيب نفسه من التأثر بمظاهر الحياة، بل إن حظ العقل فيه أكثر من حظ العاطفة، وتأثير التفكير فيه أعظم من تأثير الشعور، وهو حكم على الحوادث اليومية وتقدير لها، فهو يختلف باختلاف تلك الحوادث اليومية ويتباين بتباين المؤثرات. فالرأي العام في أمريكا يختلف اختلافاً جذرياً عن الرأي العام في السعودية مثلاً، هذا هو رأي طه حسين عن الرأي العام. أما منصور فهمي وآخرون فهم يعتقدون أن الرأي العام يتمثل في رأي صفوة الأمة وخيارها، ثم هذه الصفوة يمكنها بثه في المجتمع، ويحتجون بأمور كثيرة، من أهمها أنهم جعلوا رأي الصفوة الذي يُشكل الرأي العام مثل مسألة الإجماع لدى الأصوليين والفقهاء، بيد أن طه حسين قد نقض هذا الاستدلال، بأن الإجماع يكون في مسائل مخصوصة، وهو يُشكل رأياً فقهياً محدداً ومخصوصاً، ولا يتعدى إلى باقي نواحي الحياة ولا يتصل بكل أفراد المجتمع، بل هو في تصرفات من يقع في مسألة محددة، فضلاً عن ذلك، فإن الإجماع كمصدر من مصادر الاستدلال قد رده وجحده بعض أئمة المسلمين، وكذلك فإن رأي الصفوة في بداياته يظهر ضعيفا ضئيلا، لا يستمد قوته إلا من أصحابه، وهذا يجعله يتصادم مع القديم ويحدث شرخا مجتمعيا كبيرا، وقد يؤدي إلى رفضه. إلا أن طه حسين ينظر إلى الرأي العام أنه عدو حقيقي لعملية الإصلاح إذا ما جعلنا الرأي العام هو رأي صفوة الأمة وخيارها وتم عسف المجتمع على ذلك الرأي، لذا فقد تبنى طه حسين مذهب التلطف للرأي العام وتملقه حتى يقبل الجديد من الآراء من غير أن يشعر بها أو يفطن لها، ومن غير أن يؤلمه وقعُها فيهُب لمغالَبَتها وقتلها قبل أن تجد لها نصيراً، وهو مذهب كثير من العلماء. ولم أجد من خلال بحثي وقراءاتي في مؤلفات الرأي العام من تعرض أو ذكر رأي طه حسين في الرأي العام. فهذا المذهب الذي تبناه وأيده طه حسين في بدايات القرن العشرين يمكن أن نستفيد منه في حياتنا المعاصرة والمتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تُصاحب سياسة التنمية والتطور التي تقودها الدولة، كي نُحافظ على تقبل المجتمع لكل المستجدات التي يُراد من المجتمع تقبلها. سياسة التلطف بالرأي العام وتملقه هي الأمثل والأجدى من مسار ونهج عسف المجتمع على قبول رأي الصفوة والنخبة، لأن هذا العسف والإكراه قد يُفضي إلى نتائج عكسية. وكان هذا العسف والإكراه على أنماط معينة يُراد منها أنها تمثل الرأي العام، مجرباً في ثمانينيات القرن الماضي، خلال زمان الإسلام السياسي والصحوي، لذا فإنه لا يُلدغ مؤمن من جحر مرتين.