كثيرة تلك الأشكال الفنية التي تثير المشاعر مثل لوحة أو معزوفة موسيقية، ولكن لا شيء يضاهي تأثير العبارات.. كلمات غزلت بأدمع وريشة حزينة سطرت على أوتار تتمايز وتتناغم مع الصفحات.. أحرف رقيقة وأخرى عميقة نارية محمومة تشعل الروح وهي تتناثر كأوراق الخريف على كيان المتلقي.. إنها تجسيد حي للعواطف بحنان ساحق.. تحرك الخيال وتعزله في بوتقة يصبح في قلبها كمن يسبح في فضاء اللانهاية.. إنها ليست سوى اللمسة الرقيقة والساحرة للمؤلف التي نستسلم لها ونحلق معها في فضاءاته، وبلحظات نصبح نحن أصحاب تلك الألحان وتلك الأحرف النارية.

لنبحر معًا.. لنترك ضفاف الحياة وننتقل إلى جريان من المشاعر ونبحر في سيمفونية من المشاعر.. مشاعر الفراق.

لنتنقل بين أحضان الأبجدية تاركين الأحرف تعلو بنا وتنخفض. أمواج بعد أمواج.. لنترك صوتها يتغلغل كالنسمات داخل كل ذرة من كياننا، اسمحوا لها بالمرور.. ومع كل حرف استمتعوا برحيق ليس له مثيل، هل جربتم مذاق العبارات؟ حلاوة ومرارة.. ملوحة وحرقة.. تبدأ بهمسات وترتفع معها الأنفاس وتتسارع النبضات.. وتثور وتدور وتغلي.. ثم تهوي لترتفع من جديد.. ومن أعلى قمة تهوي بنا من جديد إلى الهدوء.. إلى النهاية والصمت.

مع الفراق سوف أسبح معكم في بحر الكلمات، فمشاعر الفراق تتشابه بين البشر، ولكن تبقى سيمفونية بعزف منفرد!

الفراق كالشتاء ينذر بالمطر بالبرد بالعواصف.. والشتاء فراق الماء للسماء ولقاء الأرض.. والماء حياة.. والحياة مسيرة ألم وفرح.. والألم بمرارته كالدواء يشفي الروح وينقيها.. فتنهمر الأدمع مؤذنة ببداية النهاية!

الشتاء كالفراق بألف رجفة قلب وألف نفس يحترق.. أرواح تلتقي لتجد أنها يجب أن تفترق وتتساقط كأوراق الخريف.. أعزاء نفارق.. نشد الأيدي.. نتعانق.. نحاول أن يطول لكيلا يأتي ما بعده!

أحضان تلتصق وتشد لتوقع عهد الصمت، عهد خط بأدمع الشوق الآتي، عهد بغد يرفض التخلي عن ذكريات الأمس..

نحاول أن نبقى أقوياء والغصة في الحلق تحرق.. أن نبقى صامدين أمام ضربات نبض قلب يعزف لحن وداع.. لا نريد أن نجرح، ولا نريد أن نؤلم، لا نريد مشاعر غضب أو ضغينة أو استياء.. نخاف فقط من أن الفراق يخنق المُفارق بمشاعر من الوحدة والخوف وخيبات الأمل، نخاف أن نترك من نحب من غير صدر يستطيع البكاء عليه، من غير كتف يستند إليه، وفي خضم كل ذلك يظل الأمل أن نترك بين جنبات كيانه ذكريات تغزل غدا أجمل!

نخشى الفراق لما يتركه في نفس الأعزاء من الألم، نخشى الفراق لما تسوقه المخاوف من سيناريوهات الكوارث التي سوف تعترض طريقهم ونحن لسنا بالقرب لنصد.. لنحمي.. لنحوِّل المسار.. لنتدخل ونسعف.. فنثني ألما وننتفض فزعا.

الفراق قد يكون خيارا، وقد يكون قدرا.. ولكنه يظل مفترق طريق علينا أن نأخذه. نشتعل غضبا أو نذوب حزنا، نقاوم أو نستسلم.. هو طريق علينا أن نمشيه، على ألحان نزف المشاعر نخطو، على أوتار الغضب نضرب.. وعلى أنغام الصمت تتسارع الخطوات لنختفي خلف سحب النسيان.

وما النسيان؟! ما النسيان سوى قوس قزح في قلب سماء ماطرة.. ألوان تظهر لتختفي.. سيمفونية من الألوان تتداخل ولا تنهي الواحدة منها لمسات الأخرى، بل تترك لها المجال لتنفرد بعزفها في فضاء المشاعر..

وفي النهاية يقف الكاتب لتحية الجمهور، فقد انتهت الصفحات.. وحان وقت إسدال الستارة.. لتنتهي المشاهد.. فنعود نحن، الواحد تلو الآخر إلى أوراق الواقع، إلى لقاء آخر.. إلى فراق آخر.. إلى الحياة.. إلى المشاعر.. كل منّا يحمل سيمفونيته ويمضي.. فكل بداية هي من رحم نهاية.. وإن كان الفراق صعبا، ولكنه رغم مرارته يمر.. يذوب مع الأيام ويضعف، فالأجساد تفترق وتبقى حلاوة الذكرى.. ويستمر ذلك العطش للقاء آت.. فلندع الأدمع ولنبتسم لأن المشاعر ستظل تنبض ما دام القلب حيا.

لنبتسم لأن هنالك مبدعين بالقلم بالريشة بالإزميل يحركون مشاعرنا لنعيشها من جديد ونحن نبحر في أعماق لحظات التوحد مع أعمالهم.. وتبقى أروعها تلك التي تنبع من أنهر عبارات الكاتب، لأن الألوان التي نراها ملك لنا.. والنغمات التي نسمعها هي من تأليفنا.. والمشاهد التي نمر في طرقاتها نحن الذين بنيناها.. فنحن أولا وأخيرا أصحاب الخيال، ونحن من يعيش المشاعر.. ونحن من يحرر الكلمات لينبض الوريد وتهتز وتنتفض الذكريات.