في معرض تأمل القصيدة الجديدة التي أبدعها الشعراء الرواد في حركة الشعر الجديد، أشرت من قبل إلى نموذجين كانا يستهوياني أكثر من غيرهما من النماذج. النموذج الأول - في شعر بدر شاكر السياب- وكان يستهويني ببنائه المحكم، وصياغته القوية، ووضح هويته في انتمائه للشجرة الشعرية العربية دون إغراب أو اقتلاع.

والنموذج الثاني - في شعر صلاح عبدالصبور - وكان يستهويني بقدرته على استدعاء لغة الحياة العادية لتصبح لغة توتر شعري، وخلق نقاط تماس عديدة بين وجدانه القاهري الحزين ووجدان المتطلعين - مثلي - إلى شهوة البدايات دون أن تصدهم عنها ترانيم الأفول.

وخيل لي، لفترة طويلة، أن النموذج الذي أبحث عنه ويضنيني، نموذج يمثل اقترابًا من السياب وصلاح عبدالصبور معًا، نموذج يحقق - فيما يحقق - عروبة لغة السياب وإحكام بنائه وسموق قامته، وانكسار صلاح عبدالصبور أمام أفق الغواية وشطحات البرجوازي الجديد.

وكثيرًا ما عانيت في بحثي عن هذا النموذج المنشود، الذي يؤلف بين الإحكام والهشاشة، ويوائم بين الحرص على جسور الانتماء والاتصال وحلم الانخلاع والابتعاد. في وقت تصورت فيه أن جزءًا كبيرًا من حصاد القصيدة الجديدة قد بدأ يفضي إلى النثرية، وإلى الترهل غير المنضبط - أو الترهل الناتج عن عدم الانضباط - وأن الإغراب والإلغاز والحرص على الانقطاع قد أخذ يبدو وكأنه - في ذاته هدف شعري، وأن ما يكتبه البعض - مما يمكن أن يسمى كيمياء شعرية تفجرها لغة سحرية تخلت عن علاقاتها ودلالاتها المشتبكة بالخبرة المتوارثة لتفسح مجالًا للتقافز والإبهار، قد باعد ما بين المتلقي والقصيدة الجديدة، وأغرى الأدعياء بالمنافسة والمزاحمة، وإغراق السوق بالنماذج الرديئة.

واكتشفت أن ثمة تحديًا - معماريًا - يواجه القصيدة الجديدة، ويتطلب منها إحكام بنائها - هو خلاصة عناصر وخبرات عدة، تمتزج فيها اللغة بالإيقاع، بالوقفات، بالقوافي العفوية - غير المتكلفة أو المترصدة بهندسة تركيب الكلام المعتمدة على نفي الفضول وحذف الصيغ المكرورة، والقدرة على استدعاء جلوات الروح وإشراقات القلب الإنساني، وبروز النغم الشعري بما يحقق تدفق الإيقاع وجيشان التوتر: عروضيًا ونفسيًا.

كان هذا الطموح الشعري يتجسد لي بصورة أقرب في كثير من شعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ومن بعده أمل دنقل الذي تابعه عن وعي في الكثير من إنجازاته ومكتسباته، وفي إدراك الحاجة إلى تحقيق هذا التحدي وملء الشعري بأبنية لها سمة الجلال وطابع الاكتمال.

ولعلي كنت مهمومًا - طوال الستينيات والسبعينيات- بالخاطر الذي يمكنني الآن أن أجلوه واستجليه، وأرده إلى أصوله وينابيعه المبكرة، وأدفع به إلى مقدمة اهتماماتي الشعرية في تحقيق النموذج الشعري، وهو السعي إلى كلاسيكية جديدة لهذه القصيدة الجديدة، كلاسيكية لا تعني التقليد أو الثبات أو الاستقرار. لكنها تعني تحقق النموذج واكتمال النهج وقدرته على الصمود.

ولقد عايشت هذا الخاطر طويلًا، خاصة خلال العام الذي اغتربت فيه بعيدًا عن الوطن معارًا إلى إذاعة الكويت، وكنت فيه قريبًا من السياب شاعرًا وإنسانًا، حيث كان يقضي الشهور الأخيرة من حياته طريح الفراش، في المستشفى الأميري بالكويت، حتى وفاته المنية في ديسمبر 1964، كما كنت قريبًا من الشاعرة والباحثة الفلسطينية سلمى الخضراء صاحبة ديوان العودة من النبع الحالم، وكانت هي الأخرى تقيم في الكويت.

وكانت بعض تجسدات هذا الخاطر الملح تخايلني خلال عدد من القصائد التي كتبتها في ذلك العام وضمتها مجموعتي الأولى (إلى مسافرة) التي صدرت طبعتها الأولى عام 1966 وهي قصائد: بكائية، وتائه على الخليج، وكلمات للعار، ودعوة إلى النسيان.