يهاتفني «مراسل الإنسان» كما أحب أن أسميه من بلاد العام سام، وهو مهندس سعودي يكمل دراساته العليا بأمريكا، ويذكر لي موقفا حدث معه في إحدى محلات «السوبر ماركت» هناك إذ يقول: (وجدت عجوزا طاعنة في السن وتستخدم العربة الكهربائية الخاصة بكبار السن والمعاقين والتي تم توفيرها في هذا السوق، وبعد فترة من تجولها علقت بها هذه العربة في أحد المنعطفات، وكانت بحاجة للمساعدة للخروج من هذا المأزق، وطلبت من إحدى العاملات التي تمر من جانبها أن تساعدها، وكان ردها أنها لا تعمل في هذا القسم وتركتنا وكأن هذا العمل ليس إنسانيا قبل أن يكون مبادرة من أي موظف، فقمت بمساعدة هذه العجوز بنفسي وأخرجتها، وكأنني قد أنقذت حياتها كما ظهر لي من كلمات الشكر والتقدير منها، ومن بقية المتسوقين الذين جلسوا «يتفرجون» بدون تقديم المساعدة، وقبلها ساعدت شابة مكسورة القدم تقف بلا مساعدة على رصيف الشارع، بتوصيلها بسيارتي لمسافة لا تتجاوز 3 كيلومترات إلى منزلها وكأنني قد اشتريت لها منزلا جديدا، من كثرة الامتنان والشكر حتى أنها بادرتني بالسؤال حينما توقفت بجانبها ?Are you sure. يقول وجلست متسائلا عما جعل هذه الحياة هنا بهذه القسوة تجاه الإنسان بالمقارنة مع ما اعتدناه في بلادنا الشرقية بشكل عام وفي الخليج والسعودية بشكل خاص، حينما تجد أحدا يضحي بنفسه في مواقف لم يستغرق التفكير بها أقل من دقيقة واحدة، كما حدث مؤخرا مع البطل (عامر الشهري) الذي انتشرت أخباره بالصحف بعد إنقاذه لحالتي غرق يفصل بينهما أقل من أسبوعين تقريبا، لطفل والأخرى لسيدة في أودية جارية بسرعة تدفق للسيول خطرة جدا.

وقبلها وهنا في أمريكا مع البطلين السعوديين جاسر وذيب، اللذَين تم تسمية قاعات جامعية باسميهما، وحصلا على الشهادات الفخرية، بل وعلى خطاب الشكر من أعلى رأس الهرم بأمريكا من مكتب الرئيس ترمب، بعد إنقاذهما لطفلين من الغرق، وحينها غرق البطلان ليسطرا أسمى معاني التضحية بالنفس لكرامة الإنسانية، بعيدا عن الانتماء الديني أو السياسي أو العرقي، ليكونوا حديث الإعلام العالمي لعدة أيام متصلة حتى تم إنتاج فيلم وثائقي عنهما. وأكمل قائلا: (لا زال هذا السؤال يشغل تفكيري حتى قابلت جارا لي بالصدفة في الحديقة المجاورة وهو من أصول هندية وله قرابة الـ 25 عاما يعمل بأمريكا وتزوج وخلّف هنا، وقال لي «كويس لقيتك خارج بيتك لأني بصراحة أبغى أبلغ المؤجر إن عندك إزعاج أطفال وأنا عملي يتطلب مني النوم حول المغرب»، فسألته ولماذا لم تأتني وتطرق علي الباب وتطلب مني ما تريده، وسأنفذه لك من كل قلبي تطبيقا للوصايا العديدة من المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالتعامل مع الجار، ولكنه قال ببساطة «خشيت أن تقتلني، فحتى بنتي لا أستطيع القدوم لبيتها المستقل ما لم تقم هي بدعوتي وتكون بانتظاري، ولها الحق حسب قانون الولاية بالدفاع عن منزلها وممتلكاتها حتى وإن قامت بقتلي بالسلاح إن وجدتني هناك دون أن أبلغها»، وحينها عرفت لماذا لا تكون مساعدة الإنسان منتشرة بينهم). بالمقارنة مع ما هناك وما هنا وأنا أستشعر كل نعمة أعيشها في بلادي، وأقول جعل الله الإنسانية والتضحية للحفاظ عليها تملأ قلوبنا، وألا يأتي يوم ونرى القانون يقتلها لـ (يحيا القانون وتموت الإنسانية).