طالما ذكرنا أننا نعيش في عالم يموج بالأفكار والرؤى والتصورات المتصارعة والمتعارضة والمتناقضة، وأن هذا العالم بما ينطوي عليه من تناقضات في الأفكار هي سمة تميز بها هذا العصر، لاحتدام صعود الرؤى اليمينية المتطرفة، وتمركز اليسار المتطرف على مراكز القوى الثقافية والأكاديمية والإعلامية في العالم الأول المتقدم، فضلاً عن عالمنا الثالث المتأخر رتبةً ولفظاً (كما ينص عليه النحويون في كتبهم عن الضمائر والمتعلقات). وهذا الصراع هو صراع حقيقي وليس مجازياً أو خيالياً، ومن تابع انتخابات العصر في الولايات المتحدة الأمريكية 2020، اتضح له كيف أن قوى اليسار المتطرف أحكمت السيطرة على قوى اليمين المعتدل والمتطرف، ولم تجعل له أي متنفس، وأن هذا الصراع بين اليمين واليسار كان ظاهرا وبينا وواضحا لكل من كان يتشكك بأنه لا وجود بين يمين ويسار في دول العالم الأول، وأن الصراع كان ولا يزال موجودا في عالمنا الثالث. وحيث إن صراع اليمين واليسار في انتخابات العصر ليس مقصودا أوليا بهذا المقال، بل كان ذكره تبعيا لموضوع الأصل، وهو تعارض وتناقض التصورات والرؤى والأفكار، فإنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا كما قال شيخنا العلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين في منظومته في الأصولية

(قد يَثْبُتُ الشيءُ لغيرِهِ تَبَعْ***وإنْ يكنْ لوِ استَقَلَّ لامْتَنَعْ)، فإن من تلك التناقضات في التصورات، موضوع التناقض في تصور أمر سهل وواضح وهو موضوع التوحيد، وأعني بالتوحيد، القسم الثاني من أقسام التوحيد الثلاثة التي تميز بها الفكر السلفي منذ عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، مروراً بعصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ثم أئمة الدعوة النجدية. فهم قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام رئيسة، وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذا التقسيم قد ثارت بسببه معارك كلامية وغزوات جدلية بين التيار السلفي، والتيار الكلامي المتمثل في طائفة الأشاعرة والماتُريدية، وهاتان الطائفتان من طوائف أهل السنة كما قرره كثير من العلماء المحققين، وهذه المعارك تستحق التوضيح في مناسبة أخرى. بيد أن توحيد الألوهية هو في أبسط عباراته إفراد الله عز وجل بالعبادة، وهو توحيد الله بأفعال العباد وهو توحيد العمل، وهو كذلك توحيد القصد والطلب، فلا يصرف العبد أية عبادة مستحقة لله لمن لا يستحقها وهو ما دون الله سبحانه، ويدخل فيما دون الله كل ما هو مخلوق، فلا تُصرف العبادات للمخلوقين. وتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله، وأفعال الله سبحانه وتعالى كثيرة منها الخلق، والرزق، والسيادة، والإنعام، والتصوير، والعطاء والمنع، والنفع والضر، والإحياء والإماتة، والتدبير المحكَم، والقضاء والقدر، وغير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله. أما توحيد الأسماء والصفات فهو مدار الإشكاليات وأسُ الخلافات بين كثير ممن ينتسب لمدار الإسلام من السلفيين والكلاميين، أو حتى من المثقفين والمفكرين، وهذا يحتاج إلى بسط واسع ومبسط ومعمق حتى تتضح صورة الخلافات في مسائله وأصوله. وقد استغلت كثير من الطوائف وجامعاتها ودولها هذا الخلاف الكلامي الفلسفي شر استغلال في تشويه صورة وسمعة المملكة العربية السعودية، وذلك بسبب تبني علماء هذه البلاد وجامعاتها طريقةً ارتضوها في فهم توحيد الأسماء والصفات، وهي طريقة مخالفة لطريقة باقي البلاد في الشرق والغرب، وخصوصاً فيما يتبناه الأزهر في تدريس العقائد الأشعرية والماتريدية. وكان الخلاف بين الجهتين السلفية والأشعرية في مسائل التأويل مثار جدل واسع وما تفرع من تلك المسائل، وهذا الخلاف كذلك يحتاج إلى دراسة وتوضيح. بيد أن هذا الأمر استمر كذلك في تشويه صورة الرؤى والتصورات التي تتبناها جهاتنا الأكاديمية دونما بحث أو مراجعة لمسائل الخلاف في التأويل، وما تفرع منها وخصوصاً مسائل المجاز وثبوته في توحيد الأسماء والصفات.

وفي نظري أن الإقرار بوجود خلافات حقيقية في معاني التأويل وثبوت المجاز في الكتاب والسنة سيُخفف من وطأة هذا الخلاف، ويتوجب على كل الجهات الأكاديمية في الشرق والغرب والوسط أن تجد تقاطعات تستوعب تلك الخلافات حتى لا تكون حجر عثرة في التطور والتنمية. بيد أن هناك نوعاً آخر يخرج بين الفينة والأخرى من خلال فكر التطرف والغلو في فهم أصول التوحيد وخصوصا توحيد الألوهية، فقد قرر باحث أكاديمي في كتاب له عن الشرك قديما وحديثا، أنه وجد في هذا العصر كثيرا من الناس يحبون أشياء كأنهم يعبدونها، حيث يجتمع عندهم في محبتها التعظيم والخضوع والذل، ثم ضرب مثلاً وهو أن الذي أحب زوجته مثل هذا الحب بحيث تعلق بزوجته وخضع لها وتعلق قلبه بها وهي درجة التتيم في الحب مع الخضوع والذل فقد أشرك بالله وعبد زوجته، حيث إنه قد صرف شيئاً للمخلوقين كان يتوجب صرفه لله عز وجل. هذا التطرف في فهم التوحيد، والخلل في فهم مقصد عبادة الله، وعدم التفريق بين أفعال الإنسان بطبيعته الإنسانية وبين أفعال الإنسان التي يقوم بها متوجهاً لخالقه، هو الذي خلق أفكار الغلو والخروج عن فكر الإسلام ومقاصد الشريعة السمحة. وهذا الخروج في حقيقته ما هو إلا الوقود الحقيقي لأفكار جماعات الفكر التكفيري، وهذه الجماعات وإن كانت قد خبا صوتها، وهدأ فعلها، وصارت إلى السكون أوضح، فهي في حقيقتها تتستر من وراء فعل الكمون حتى تجد الفرصة فتظهر ظهوراً بيناً وبشكل واضح سوف يعيد القلق والأرق للجهات الفكرية والثقافية والأمنية. فهذه الفهوم الأكاديمية التي تُقرر أعظم الأمور لطلابنا قد حان الوقت لجراحة حقيقية لكل ما يدور في مجالات فكرنا وثقافتنا ومؤسساتنا الأكاديمية، وبتر كل تلك النتوءات التي ما أن تعود بصورة متحورة ومتجددة، فتصيب فيروساتها عقول شبابنا وفتياتنا، فنرجع إلى ما كنا عليه في دوامة لا نكاد نخرج منها.