إذا رأينا مُبتلى: حمدنا الله الذي عافانا، ففي الحديث الذي صححه الألباني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن رَأَى مُبتَلًى فقال: الحمدُ للهِ الذي عافَانِي مِمَّا ابْتلاكَ به، وفَضَّلَنِي على كَثيرٍ مِمَّنْ خلق تَفضِيلًا، لَمْ يُصِبْهُ ذلكَ البلاء).

إنني عندما أكتب عن الفساد، والذين يسرقون المال فيُكتَشفون، أو يُقننون فسادهم لئلا يُكتَشف، لا أشمت بهم، ومعاذ الله أن أكون شامتا، ومعينا للشيطان عليهم، لكني أتألَّم لوقوعهم في هذه الجريمة، وأفرح أن الله مكّن جهات الاختصاص من مكافحة هذا المنكر، وأتساءل في نفسي وأقول: هؤلاء الذين يسرقون ألا يخافون الله، أليسوا مسلمين يصلون ويعبدون الله، وربنا يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فكيف لم تنههم صلاتهم عن منكرِ أكل المال بالباطل؟ هل أدوها دون استحضار عظمة الله، والوقوف بين يديه؟

وأتساءل: هؤلاء مسلمون يعلمون أنهم في أي لحظة يُقدِّرها الله سيموتون، وسيدخلون قبورهم، ويُسألون عن هذا المال: من أين اكتسبتموه، وفيم أنفقتموه؟ فما جوابهم؟ وهل سيفلتون من العذاب بعذر، في موقفٍ تشهد فيه أعضاؤهم عليهم، فيقولوا لتلك الأعضاء: عنكن كنا نجادل، فيقلْن: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، قال تعالى (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون) !

وأتساءل: ألا يعلمون أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ من الغنيمة شملة (قطعة قماش) لم تُصبها المقاسم، فلما أصابه سهم، ومات، قال الصحابة هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح (كَلاَّ. إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ. فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا. أَوْ عَبَاءَة) وفي رواية (كَلاَّ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا. أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ. لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِم) !

ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فزع الناس، فجاء رجلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. وقال: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَر. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِن نار» أخرجه البخاري ومسلم.

والشِرَاك: هو سير النعل الذي على ظهر القدم.

فهذا يدل على أليم عقاب من أخذ من المال العام بغير إذن الإمام وإن كان شيئاً يسيراً، ويدل أيضاً على أن من المتعين شرعاً أن يعترف الإنسان بما أخذه بغير حق، وأن يعيده عاجلاً، وليتحلل اليوم ما دام في الدنيا، قبل ألا يكون درهم ولا دينار.

إن ما قاله سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وفقه الله (بأنه لن ينجو أحد دخل في قضية فساد، وأن كل من توفرت عليه الأدلة الكافية سوف يحاسب) هو في صالح الجميع، حتى من قُبض عليه لأخذه مالاً لا يحل له، هو في صالحه أيضاً، لأنه يعيد ما أخذ، وتكون عقوبته في الدنيا، ويتوب، وهذا خيرٌ له من أن يُسكَت عنه حتى يلاقي ربه وهو سارقٌ من بيت المال، لأن جزاء السارق عند الله أليمٌ شديد، فليس هو خيراً ممن خدم النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لماّ أخذ شملةً (قطعة قماش) دون إذن إمام المسلمين، صار جزاؤه أنها تشتعل عليه ناراً يوم القيامة، فما بالك بمن أخذ الآلاف والملايين ظلماً وعدوانا؟

فلا يحسبنَّ الذين طولبوا بإعادة ما أخذوه بغير حق شراً لهم، بل هو خيرٌ لهم، وإني أهيب بكل من أخذ ما لا يحل له، أن يُبادر بالاعتراف، ورد الحقوق إلى أهلها، حتى وإن كان لم يُكتَشف، فالله لا تخفى عليه خافية، والدنيا فانية، والآخرة خيرٌ وأبقى، ولندعو الله لمكافحة الفساد بالإعانة والتوفيق، لأنها تُكافح منكرا وإجراما، ولا يصح أبدا المجادلة عن السارقين والفاسدين أو التستر عليهم، لأن من يفعل ذلك يغشهم ويخدعهم، فيستمروا في باطلهم، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون، قال تعالى (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا).

فجزى الله هيئة الرقابة ومكافحة الفساد خيرا، وجزى الله خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، على دعمهما لجهود الهيئة، فذلك في نظري جمعٌ بين حسنتين:

الأولى: حسنة الإحسان للسارقين أنفسهم، لئلا يَرِدوا يوم القيامة وهذه الأموال التي احتالوا لأخذها بغير حق في أعناقهم.

الثانية: حسنة الإحسان لعموم المواطنين، لأن إعادة المال لميزانية الدولة، ومشاريعها التنموية التي تخدم المواطنين، فيه مصلحة عامة لكل المواطنين.