في الحضارات القديمة كان الإنسان يعيش حياة التنقل والترحال «Nomadism». كان يتنقل بين الهضاب والسهول والجبال بحثاً عن الماء والغذاء والصيد. وقبل قرابة 9000 سنة ق. م اكتشف الإنسان الزراعة وبدأ يستأنس بزراعة المحاصيل وتربية الحيوانات للانتفاع بها في حياته اليومية. وحرصاً على عدم تلف المحاصيل الزراعية، ابتكر الإنسان طرقا مختلفة في تخزينها، تارة في الكهوف وتارة في المغارات... إلى أن توصل إلى بناء المخازن من الطين والحجارة، وصولاً إلى بناء الأسوار حول التجمعات البشرية. ومن هنا بدأ الاستقرار والأمن الغذائي يزداد نسبياً مع الوقت. تشكلت المجتمعات وأصبح الإنسان يدين بالولاء والانتماء للأرض والمجتمع. ومن هنا ظهر مفهوم «المدينة» وتطور مع تعاقب الحضارات الإنسانية، مروراً بالحضارة البابلية – الفرعونية – الإغريقية –الرومانية والحضارة الإسلامية. وكان لكل حضارة طابع فريد في أسلوب الحياة الاجتماعية والاقتصادية وبناء المدن وشق الطرق وغيرها من الأنشطة البشرية. إلى أن جاءت الثورة الصناعية والتي تُعد النقلة الدراماتيكية الكبرى في حياة البشرية على هذا الكوكب.

(ففي القرن السابع عشر- الثامن عشر) بدأ عصر النهضة والابتكارات ينمو بشكل متسارع. عام 1784 تم اكتشاف وتصنيع الآلة البخارية، ومن ثم اكتشاف الكهرباء وتصنيع الآلات بمختلف أنواعها وصولاً إلى عالم الاتصالات والإنترنت. هذه الاكتشافات مكّنت الإنسان من سهولة استخراج واستهلاك الموارد الطبيعة وتسخيرها لجميع الاحتياجات البشرية، بل إنّ الاستهلاك لهذه الموارد الطبيعة بلغ مستوياتٍ قياسية لم يشهد لها مثيلاً في القرون السابقة.

منذ بداية الثورة الصناعية ظهر القليل من الأصوات والآراء العلمية تُحذر من عدم الاستمرار بنفس الأسلوب الاستهلاكي للموارد الطبيعية، ولكنها لم تؤثر في صُنّاع القرار وأرباب العمل والصناعة... واستمرت التنمية والنهضة المعتمدة على الوقود الأحفوري لسنوات طويلة بالأسلوب نفسه. ولكن! في عام 1971 ظهر مجدداً العديد من الدراسات العلمية التي كانت أكثر دقة وإقناعا مما كان في السابق. وأصبح الصوت يعلو ويؤكد أنّ هنالك خطرا قادما يهدد الحياة على كوكب الأرض، ويزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، وهذا قد يؤدي لمزيد من الكوارث الطبيعية، وفقدان الكثير من العناصر الطبيعية من أهمها الوقود الأحفوري.

دعا هذا الأمر لتدخل منظمة الأمم المتحدة وتشكيلها فريقا علميا مختصا لدراسة مدى خطر هذه الظاهرة على الطبيعة. واِستمرت الدراسة قرابة عشر سنوات. وعرضت نتائجها في التقرير الشهير مستقبلنا المشترك «Our Common Future»، والذي تضمن مجموعة من النقاط الهامة ولعل من أبرزها: عدم الاستمرار في استهلاك الموارد الطبيعية غير المتجددة، والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة، وتقليل انبعاثات الكربون الناتجة من احتراق الوقود الأحفوري. وطلبت الأمم المتحدة من جميع دول العالم تبني وتطبيق أهداف التنمية المستدامة الـ17، والتي تسعى لترشيد الاستهلاك واستخدام الطاقة النظيفة، والحفاظ على الطبيعة والمجتمعات البشرية وتنميتها وتحسين جودة حياة الفرد والمجتمع، ومحاربة الفقر والاُمية.

ومما يبعث التفاؤل والافتخار في المملكة إطلاق رؤية المملكة 2030 التي تضمنت الاستثمار في الطاقة النظيفة، وتنويع مصادر الدخل، وبناء العديد من المشاريع النوعية المستدامة كمدينة «نيوم».

وفي الوقت الذي تجاوزت فيه أعداد السيارات 20 مليون سيارة... أسعدنا سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بإطلاق مشروع ذا لاين The Line، الذي يُعد مشروعا ملهما للعالم، مشروع أخضر مبني على مبادئ التنمية المستدامة، واستخدام الطاقة المتجددة، وتقليص وجود السيارات في المناطق الحيوية إلى مستوى صفري.

هذا التوجه الحكيم والفكر والأسلوب العلمي العميق في إعادة التفكير حول تخطيط المدن، سيكون له الأثر البالغ في جميع مدن المملكة القائمة والمستقبلية، سعياً لتقليل وجود السيارات في الأماكن الحيوية، ورفع مستوى الوعي المجتمعي بأخطار انبعاثات الكربون الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري، وهذا يُحّتم علينا أن نُسخر جميع الجهود تحت توجيهات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان نحو مجتمع صحي أخضر ومستدام. كذلك بناء مدن مستدامة تسعى لتوظيف أحدث التقنيات ومفاهيم الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء لبناء مدن ذكية ومستدامة، تهدف لرفع جودة الحياة في وطننا الغالي، وسعياً منا جميعاً للحفاظ على البيئة المحلية والعالمية من مخاطر التغير المناخي والتلوث البيئي.