كم نندم على خيانة الكلمات.. كم نندم على ضياع الوقت في النزاعات والتشنج.. كم نندم على أدمع سالت بعد فوات الأوان! ننتظر حتى النهاية فننتفض ونتذكر بعد أن نكون قد خسرنا تلك الأرواح الطيبة التي سارت بخطاها على رمال حياتنا، وتركت علامات على شواطئنا لا نراها إلا بعد أن تكون قد غادرتنا، فنعود إليها لنجد أن أمواج البحر قد مرت عليها ومحت كل أثر ظاهر لها.. فنعتصر ألما.. ونندم.

كم ندمنا على فرص فاتت وقلنا لأنفسنا غدا بإذن الله سوف نلحق بها ونستغل الوقت ونستفيد منها.. ثم نجد أننا انشغلنا بالحياة وتركناها تتسلل من بين أصابع الزمن وتتركنا إلى غيرنا.

كم ندمنا على كلمات تلفظنا بها عن قصد أو عن غير قصد.. كلمات اخترقت كالخنجر القلب والخاصرة، وأحيانا الظهر.

كم ندمنا على مجهود إضافي قمنا به على حساب صحتنا وأسرنا، ثم اكتشفنا فيما بعد أننا زرعنا في حدائق من لا يستحق ولا يقدّر!

كم ندمنا على إهمال التواصل مع أسرنا بحجة الوقت والانشغال والمسافات واختناق الشوارع وتكلفة المواصلات.. أعذارنا دائما حاضرة حتى نخرس ذاك الصوت في دواخلنا.. إلى أن يصيبه التبلد ويفارقنا

كم ندمنا على تجاهلنا الإساءة، ليس ضعفا، ولكن محبة وتجاوزا.. بينما الآخر اعتبرها ضعفا، فضاعف من التعدي.

كم ندمنا على أننا صدقنا كلمات ووعود ممن اعتبرناهم في مواقع قيادية وعلى قدر من المسؤولية في أن ينفذوا أمورا هي من صميم أعمالهم وواجباتهم.. ثم صدمنا بأنهم لا يقيمون لنا ولا لغيرنا أي اعتبار.

كم ندمنا على أننا وثقنا بمن لا يستحقون الثقة.. ممن كانوا يمثلون المحبة والمودة وهم يخططون للإساءة إلينا في أقرب فرصة!

كم صدمنا بمن مثلوا البراءة والنقاء، وفتحوا قلوبهم لنا وحدثونا عن مخاوفهم، وحذرونا من الآخرين، ثم تبيّن لنا أنهم مع الآخرين نفذوا نفس التمثيلية، ليجعلونا نرتاب ونخاف من بعضنا البعض، ويبقوا هم القاسم المشترك بين هؤلاء وأولئك.

كم ندمنا على مشاركة الغير بأخبارنا السعيدة، ثم عرفنا أنهم كانوا ينصهرون غيظا، وبدلا من التشجيع يقدمون النقد وعبارات الإحباط، حتى لا يتكرر النجاح ونفشل وعندها يسعدون!

وقائمة الندم تطول.. وتطول.. وتطول.. ولكن، هل الحياة غير خبرات، وهنا الكلمة السحرية «خبرات»! ولأنها كذلك فهنالك الجانب الآخر للخبرات، من القيم والمفيد والمفرح منها، إلى السلوكيات المؤلم والمثمر منها.

السؤال هنا: هل يجب أن نتوقف، أن نتغير، أن نبدل في طرق تعاملاتنا وتوقعاتنا؟

أبدًا.. نعم يجب أن نكون حذرين.. نعم يجب أن نفكر ألف مرة قبل أن نفتح قلوبنا لأحد، ولكن لا نغلقها، ويجب أن نستمر في العطاء والتعاون، والمشاركة بالعمل والوقت والجهد والمعرفة.. أن نقدم ما لدينا من أجل الارتقاء بالغير سواء كانوا يستحقون أو لا يستحقون، لأننا بكل ذلك نرتقي بذواتنا أولا، ونرتقي بمن هم حول كل من لا يستحق، لأن أثر جهودنا إن لم يمطر علينا فقد يترك قطرات من الندى تنعش روحا، ولو كانت لشخص آخر في دائرة حياة هذا الذي لا يستحق.

نُصدم؟! لِمَ لا؟! كيف لنا أن نتعلم إن لم نُصدم! نندم؟! لم لا؟! فكيف لنا أن نُقدّر ما بين أيدينا ونتنبّه إلى ما يوجد من شر وأذية، لدى من يمثل علينا دور المنقذ أو دور الضحية!

الحياة ميزان.. إن ارتكزت على كَفّة مالت الأخرى، وسنبقى ننتقل ما بين الكفتين إلى اليمين تارة وإلى الشمال تارة أخرى.. وهذا التنقل.. وهذه الحركة مما يجعلنا ندرك أن هنالك مشاعر تنزف، وروحا تنبض، وفكرا يتعلم. اليوم هو أمس غد.. والحياة تسير.. يجب أن نتركها تسير، إن توقفنا وتقوقعنا في جوف الحزن والألم والصدمات، فلن نرى الجمال الذي يحيط بنا من نعم الرحمن.. قلوب صافية.. أرواح نقية.. أيدٍ ممدودة وفرص للسعادة لا تعد ولا تحصى.

من فارقنا اليوم أخذ معه الجزء المادي من وجوده.. لكنه ترك أجزاء أخرى.. فسيفساء من الذكريات المرة والجميلة، ولكنها تبقى لوحة تزين أيامنا القادمة، كلما اشتقنا أغمضنا الأعين لنعيش لحظاتنا معهم ثانية، ثم نرفع الأيدي لندعو لهم بالرحمة والغفران، ونحن نعلم يقينا أنهم عند مَن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.. فلنحول الندم إلى ما يفيدهم عند الرحمن.

أما من قام بأذيتك أو لم يعطِ جهودك أي تقدير أو اعتبار.. فسامحه! نعم سامحه وادعُ لهم بالهداية.. لماذا؟ لأنك بذلك سوف تنزل حملا ثقيلا عن روحك كان يتعبك، ويجرك إلى الأفكار السوداء التي تعكر صَفْوَ أيامك، وتذكر أنك بهدايته سوف تشهد أن غيرك أيضا سوف يستفيد من التغير، وبهذا تعود عليك الفائدة.. إن لم تكن عليك مباشرة فستكون على من هم حولك، أو سيأتي بعدك من يهمك أمرهم.. فكما ينتشر السوء ينتشر الخير والجمال أيضا.

الندم سلاح ذو حدين.. قد نصوبه إلى صدورنا لندمي به قلوبنا ونشعلها غضبا وعواصف تدفعنا إلى الانتقام، وقد نعيد تشكيله ونحوله إلى خبرات نتعلم منها.. سلاح ينهيك وسلاح يرتقي بك.. أيهما ترى أنه الأفضل لك؟

صاحب العواصف والغضب أم صاحب الخبرة والتعلم! ليس كل سهل مفيدا، وليس كل صعب مفيدا.. لكن بما أنك تفكر وتشعر وتريد أن تستفيد فخذ من كلامي ما يساعدك واقذف الباقي حيث تريد!