كانت الوظيفة الحكومية شيئا جديدا في مجتمعات الجزيرة العربية، إذ كان الإلف والعادة يقتضيان أن يعمل الفلاح في حقله، والتاجر في متجره، والعامل في معمله، والمدرس في كتّاب أو مدرسة أوقفهما ثري أو كبير، وكان العمل جزءا من حركة المجتمع تصوغ شروطه وترعى تقاليده المشيخات والنقابات وما إليها.

عرفت مكة المكرمة الوظيفة الحكومية قبل العهد السعودي، لكنها لم تقو وتشتد وتصبح شأنا عاما إلا في عهد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وكلما مضينا في الزمان كانت البلدة المقدسة - وهي كذلك العاصمة السياسية - دار الحكم والسياسة، ومقر الوزارات، ودواوين الحكومة. وكان من المشاهد المعتادة أن يرى أبناء ذلك العهد موظفي الحكومة حين يصبحون متجهين إلى هذه المصلحة أو تلك، وحين يمسون عائدين إلى بيوتهم. كان موظف الحكومة شيئا جديدا.. إنه رجل يعمل في (الدولة)، وعساه - وقد كانت دواوين الحكومة قليلة العدد - يرى نائب الملك في الحجاز، بل عساه يرى الملك نفسه حين يؤم مكة المكرمة، وعلى ذلك كان شيئا مختلفا، إنه ليس عاملا في معمله، ولا بائعا في متجره، بل هو رجل ذو سمت خاص يجعله مباينا لهيئات رجال آخرين في المحلة والزقاق والحارة. وأول ما يخالفهم فيه أنه يرتدي ثوبا، ويغلب عليه أن يكون بدرجة من درجات الأبيض، وأنه يضع على رأسه عمامة بيضاء يعلوها عقال يفهم منه أن صاحبه موظف مدني. ولا تظنن هذه الهيئة شيئا عاديا في ذلك الزمان، بل إنها علامة الانتساب إلى الدولة، والاتصال بدواوينها، ثم إن حاضرة الحجاز لم يكونوا يضعون على رؤوسهم عمامة ولا عقالا، قبل العهد السعودي، فكانت أولى دلائل الطبقة الجديدة [طبقة الموظفين] استبدال العمامة الجديدة بالعمامة القديمة [والباء تدخل على المتروك]. ثم كان من لوازم الموظف الحكومي، آنئذ، أن يتخذ له عباءة، واسمها الشائع (المشلح)، وعلى نحو قليل (البشت)، على أن الموظف، ما دام موظفا عاما، لا يضع (المشلح) على كتفيه، إنما يتأبطه، بعد أن يطبقه تطبيقا خاصا، فإذا أبصرت رجالا في الصباح الباكر أو قبل الأصيل، بالشارة التي دللتك عليها، فاعلم أنهم موظفون في الحكومة أو الدولة. وموظفو الحكومة درجات فأعلاهم مرتبة وأكثرهم حظا أولئك الذين يعملون في ديوان وزارة المالية في مكة، وقد كانت وزارة الوزارات، أو من عمل منهم في (النيابة العامة) - والمقصود بهذه العبارة ديوان نائب الملك في الحجاز - ثم من كان منهم يعمل في الوزارات الأخرى، أو ما كان يقوم مقامها في ذلك العهد.

كان الموظف في وزارة المالية أوفرهم حظا، لما أوتيه من معرفة بالحساب ومسك الدفاتر وحسن الخط ونحوها، ولذلك عرف عن كوكبة من أدبائنا الرواد أنهم عملوا فيها، ولعلهم اختصوا بمزايا وحوافز جعلتهم ألين عيشا من عامة الموظفين، يدلنا على ذلك أن الدكتور حسين عبدالله باسلامة يروي في مذكراته أنه كان، في صباه، يذهب إلى المدرسة راجلا، وزملاؤه في المدرسة من أبناء الأديب محمد حسين زيدان تقلهم سيارة خاصة؛ فوالدهم يعمل في المالية، أما حسين فكان يتيما فقيرا. وهذه المزايا ليست عامة بكل الموظفين، مهما تأبطوا (مشلحا) مطبقا، هو، إن تأملناه، من لوازم الوظيفة، لا الوجاهة كما اعتدنا اليوم، وربما صح أن نفرق بين ثوب وثوب، وعمامة وعمامة، ومشلح ومشلح؛ ذلك أن (مشالح) صغار الموظفين لن تساوي في الجودة والقيمة أمثالها عند كبارهم وأوساطهم، وعلينا أن نفترض أن الموظف الكبير تحمله وظيفته على أن يتخير صنفا باهظا يليق بمقامه ومقامات الكبار الذين يتصل بهم، أما صغار الموظفين ومن في حكمهم، فيغلب على الظن أن مرتباتهم وما يحصلونه من معاش لا تجوز بهم المحال التي تبيع الأصناف الرخيصة، هذا إذا اشتروا صنفا جديدا، وربما بحث موظفون عن (مشلح) مستعمل في حوانيت الثياب المستعملة، أو في الحراج، ما دامت الغاية أن يتم سمت الموظف الحكومي وهيئته، فيتأبطه مصبحا ممسيا وهو يذرع الشوارع والأزقة، أو حين يغشى مجالس الأصحاب والأحباب، في هذه القهوة أو ذلك المركاز، وربما كان له فيه مآرب أخرى! ومن أطرف ما يساق، هنا، من تلك المآرب، حادثة يتذكرها الصحفي الكبير عبد الله عمر خياط، أسوقها إليك بنصها، وأختم بها حديثي. قال:

«وفي تلك الأيام كان أكثر أدبائنا على باب الله وأذكر مثالا على ذلك ما رواه لي معلمي الأستاذ محمد عمر توفيق الذي قال: كنت أتغدى مرة مع أحمد عبدالغفور عطار في مطعم «البيوم» الجاوي، ولم يكن لدينا قيمة الوجبة بل ولا قرش واحد. وفي تلك الأيام كان الكثير من موظفي الحكومة يحملون «المشالح» مطبقة، ولا يلبسونها، وإنما يضعونها تحت أباطهم، وصادف أن العطار كان يحمل مشلحه، فرهناه مطبوقا عند الجاوي صاحب المطعم، ولحسن الحظ قبله «البيوم» بدون أن يفتحه وإلا لاكتشف أن المشلح مهترئ ومليء بالخروم، وبالتالي لا يساوي قيمة ما تغدينا به»!.