لا بد من يوم تتوحد فيه البشرية فتغدو هذه الدول وهذه الدويلات التي يكتظ بها سطح الأرض دولة واحدة لا منافس لها في الحكم والسلطان إلا الطبيعة. وإذ ذاك فالقوى البدنية والروحية الهائلة التي تهدرها اليوم شعوب الأرض هدرا في المحافظة على كيانها القومي والسياسي والاقتصادي أو في توسيع ذلك الكيان على حساب جارتها القريبات والبعيدات تتحول جميعها من أسلحة هدامة أثيمة إلى أسلحة بناءة كريمة. فهي هدامة وأثيمة ما دام الإنسان يستعملها لامتهان كرامة أخيه الإنسان ولمزاحمته على لقمة يتبلغ بها أو على ساعة من الهناءة يكشح بها غيوم المعيشة عن قلبه. وهي بناءة وكريمة عندما يلجأ إليها الإنسان ليبتز من الطبيعة خيراتها ويفض ما أغلق عليه من أسرارها فيسخرها لغاياته بدلا من أن يكون مسخرا لغايتها، ويذللها لمشيئته بدلا من أن يكون عبدا لمشيئتها. لا بد من يوم تتمزق فيه غشاوات التعصب الإقليمي والعرقي والديني عن أعين الناس فيبصرون من بعد عمى، ويستفيقون من بعد غفلة. ويدركون أن ما ينفع أمة ينفع كل الأمم. وما يضير أمة يضير كل الأمم. وأن الأرض ليست موطنا لشعب دون شعب، وخيراتها ليست وقفا على دولة دون دولة، وأن النزاع على الأرض لا غالب فيه إلا الأرض. أما النزاع مع الأرض فقد يؤدي بل هو سيؤدي حتما إلى غلبة الإنسان على الأرض. وغلبة الإنسان على الأرض ستكون نقطة انطلاقة إلى الحرية. وهي غلبة لن تتم لهذه الأمة وحدها أو لهاتيك بل تتم بجهود جميع الأمم وجميع الناس، وإذن فهي غلبة الإنسانية لا غلبة دولة بعينها أو إنسان بعينه. وإذن فالغنيمة هي للكل بالسواء، لا للعملاق دون القزم، ولا للمبصر دون الضرير، ولا للشاب والكهل دون الطفل والشيخ.

أجل لا بد من يوم تبوح فيه الأرض بأسرارها للإنسان، فيبصر أين كان وماذا كان وكيف تدرج على مدى الأزمان، ويدرك أنه ما تقمط بالزمان ليبقى إلى الأبد رهين الزمان. بل ليقهر في النهاية الزمان. ولا استوطن الأرض ليستأسر للأرض بل ليجعل منها نقطة الوثوب إلى السماء.

في ذلك اليوم يقرأ الناس تاريخ هذه المدينة التي نزهو بها ونضحي بالطارف والتليد في سبيل الحفاظ عليها فيضحكون منا، ويتفكهون بأخبارنا مثلما نتفكه نحن بأخبار أبناء الكهف والغاب الذين سبقونا، ومثلما يتفكه كاتب عبقري في عنفوان فيضه وإنتاجه بمقال كتبه وهو في أول عهده بالقلم والحبر.

والقرطاس وألوان الكلم، أو مثلما يتفكه رسام عظيم بصورة دجاجة أو قطة رسمها بالفحم على جدار منزله وهو ما يزال في الخامسة من عمره. وكما يبدو لنا البعير لدى المقارنة بالسيارة، والجواد بالطيارة، والنشابة بالصاروخ، والزند بالكهرباء، والصوت نرسله من حناجرنا في الفضاء فلا يتعدى الميل أو الميلين، بالصوت نودعه المذياع فيلف الأرض في طرفة عين، كذلك ستبدو فتوحاتنا العلمية ونظمنا السياسية والاجتماعية والدينية ألاعيب صبيانية لدى المقارنة بالفتوحات والنظم التي ستعرفها الأجيال من بعدنا.

في ذلك اليوم تتناجى البقاع التي كانت قفرا يبابا في الأرض فتقول صحراء ليبيا لصحراء غوبي: «ما أعذب الري بعد العطش!». ويقول الربع الخالي لبادية الشام: «ما أطيب الأنس بعد الوحشة!». وتقول صحراء أريزونا للدهناء: «ما أجمل الخصب بعد العقم!». وتهتف جميعها بصوت واحد: «ما أعظم الإنسان!».