للروائي أشرف فقيه علاقة عميقة وكثيفة مع الصفر الحسابي/الرياضي، سواء بمنظوره الفلسفي أو الديني أو الروائي، حتى إنه جعله منطلقا لآخر أعماله (رسم العدم)، وهو عمل يترادف مع الخيال، ويشكل محاولة سردية توظف العلاقة بين الديني والعلمي والفلسفي في قالب روائي يرتكز إلى القص وبناء محكيات درامية تغوص في عوالم تعود بها إلى قلب التاريخ.

تلخص الرواية فكرة التدفق والارتفاع السردي في لغة «فقيه» المختلفة، فهو يوظف مفاهيم رياضية وحسابية في حواريات وسرديات تاريخية مع مزيج من الفلسفة وروح الدين والعلوم.

يقول أستاذ الفلسفة السابق في جامعة «أكسفورد» رئيس قسم الفلسفة في كلية «رغبي»، جون تايلور: «ما يوحد العلم والدين والفلسفة على المستوى العام جدا هو أنها كلها تهدف إلى معالجة رغبتنا في التفسير، لفهم العالم الذي نجد أنفسنا فيه، فهم طبيعتنا، وكيف علينا أن نعيش».


وتتقاطع «رسم العدم» بقواسم إبداعية مشتركة مع بقية أعمال تركز على الاستعادة المؤثرة للتاريخ، وتقديمه برؤية مختلفة، ويضعنا ذلك المزيج عالي العناية بين التاريخي والخيالي أمام تجربة مهمة، تشكل جزءا من المشروع الأدبي لـ«فقيه»، وتميزه في الفضاء السردي بكل بلاغته وقوة حضوره السردي وفكرته الروائية.

بُعد خامس

جميع أعمال «فقيه» تدخل قارئها إلى فضاءات البُعد الخامس، وهو بُعد ذاتي كامل، يراه البعض حلما أو خيالا، ولا معنى أو قيمة حقيقية للإبداع السردي دون حضور خيال كثيف في الحبكة أو اللغة، أو بمعنى آخر صناعة عالم جديد ومختلف يضطر القارئ لدخوله واستكشافه.

وحين تنتهي من قراءة «رسم العدم» لا بد أن تجد أنك في حالة من الاقتراب مع كثير من الانزياحات المعرفية، أي زيارة جديدة للتاريخ لا تجعلك تقف الموقف الفلسفي أو العلمي أو المعرفي نفسه، فهناك تغيير أو انتقال وتحوّل يحدث، ومن هنا تأتي قيمة العمل.

وقبل أن نُبحر في «رسم العدم» والصفر وعلاقة التاريخ بالخيال والعلم والدين والفلسفة، نتوقف عند أعمال «فقيه» السابقة لذلك الرسم، فهو بدأ بقصص قصيرة في الخيال العلمي تحت عنوان «صائد الأشباح» صدرت في 1997، تلتها على النسق نفسه مجموعته القصصية «حنينا إلى النجوم» في 2000، ثم في 2006 نشر مختارات من قصصه القديمة ضمن مجموعة سماها «نيِّف وعشرون حياة»، وفي 2012 أصدر باكورة أعماله الروائية «المُخوزِق»، وهي رواية تاريخية عن عوالم الرعب والخرافة.

وبعد 8 أعوام، في 2020، كان ميلاد «رسم العدم»، الصادرة عن «دار تكوين» في الكويت، وهي ذلك المزيج الفلسفي لسيرة عالم الرياضيات ليوناردو فيبوناتشي، الذي كان إسهامه الأكثر وضوحا هو إدخال الأرقام العربية والصفر إلى قارة أوروبا في القرن الـ13.

تجربة جريئة

«رسم العدم» أسست لتجربة جريئة ومتكاملة في السرد الروائي، وكان ذكيا اتكاء «فقيه» على «فيبوناتشي»، لينطلق من مدينة بيزا، مرورا بـ«بجاية» في الجزائر وإشبيلية وباليرمو وعكا ودمشق والقدس، وانتهاء بـ«بيزا» مرة أخرى.

بشكل مجمل، لم يكن «فيبوناتشي» شخصية متخيلة بالكامل، بل كان مهما أن يكون واقعيا، لأن فكرة الصفر تحتاج لأن تنطلق من أساس ما بين الناس، ذلك الصفر مطلق ومذهل وساحر، فهو مفتاح لأكثر الناس زهدا في تفسير العلوم والتطور البشري، وهو يجعل المائة تساوي واحدا صحيحا، نعم، يحدث ذلك حين نجعل طرفي أي معادلة مرفوعا إلى القوة صفر.

لم يكن «فيبوناتشي» نفسه مفتونا بالرياضيات، ولكنه فور تعرفه على فن «الرموز التسعة» عند الهنود من خلال التدريس، سرعان ما توصل إلى فهم ذلك، واستطاع تقديم إسهامات كبيرة في إحياء الرياضيات القديمة، واستخدام الأرقام العربية في أوروبا.

الرحلة على مدي السرد والحوار في «رسم العدم» لا تقدم «فيبوناتشي» وحده وإنما الروائي «فقيه» الذي يخوض ضربا إبداعيا في الفضاء الروائي، ففي هذه التجربة دخل بقارئه إلى بلاط الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني، الذي كان يحيط به عدد من العلماء أمثال مايكل سكوت، وكان منجم البلاط، وثيودوروس فيزيكوس، وهو فيلسوف البلاط، ودومينيكوس هيسبانوس، وعن طريقهم علم بعمل «فيبوناتشي».

في ذلك البلاط تنطلق رؤية «رسم العدم» في حل المشكلات الرياضية والفلسفية، ويجد «فقيه» متعة في سرد حلول «فيبوناتشي» ومحاولة تبسيطها، لأنها جعلت حل كل مشكلة تقريبا أمرا ممكنا وفعالا، وهو شرح سهل بدأ من معضلة قُدمت له لرجل وضع زوجا من الأرانب في مكان محاط من جميع الجهات بجدار، وكان مطلوبا معرفة عدد أزواج الأرانب التي يمكن إنتاجها من هذا الزوج في السنة.

التسلسل الناتج كان هو 1 و1 و2 و3 و5 و8 و13 و21 و34 و55، وفي هذا التسلسل يكون كل رقم هو مجموع العددين السابقين، وذلك يبدو بسيطا وممتعا. وعلى ذلك، جاء كتاب المربعات، حيث فكر «فيبوناتشي» في أصل كل الأعداد المربعة، واكتشف أنها نشأت من الصعود المنتظم للأعداد الفردية، لأن الوحدة مربع، وينتج منها المربع الأول، أي 1، وإضافة 3 إلى ذلك يأتي بالمربع الثاني، أي 4، الذي جذره التربيعي 2، إذا تمت إضافة رقم فردي ثالث إلى هذا المجموع، أي 5، فسيتم إنتاج المربع الثالث، أي 9، الذي يكون جذره 3، وبالتالي فإن تسلسل الأعداد المربعة يرتفع دائما من خلال الجمع المنتظم للأرقام الفردية.

الأمر نفسه من التسلسل والمتواليات العددية يتناوله «فقيه» في «رسم العدم»، ليقدم عملا إبداعيا في فكرته ورؤيته وعمقه، وذلك ينطوي على تتويج لما بدأه منذ أن قدم «صائد الأشباح»، ليتجلى في هذه الرواية التي تكتب العنوان الأبرز لتجربة حدودها منتهى الخيال.

ولا تتوقف تلك التجربة عند معطيات «رسم العدم» وتفكيك تشابكات الصفر وتقاطعات الديني والتاريخي والفلسفي، وإنما تضع منطلقا متقدما لرواية جديدة، تجعل الخيال وظيفة إبداعية يمكن استخدامها بمثل هذه المهارة والحيوية السردية مع الانتقال بأدب الخيال العلمي إلى آفاق جديدة يتخذ فيها الإبداع منحى آخر بكل عناصر التجديد الأدبي والقصصي.