امتدّ تأثير "الربيع العربي" إلى بقية دول العالم، على شكل حركات شبابية احتجاجية، اشتهرت منها حركات "احتلوا وول ستريت" OCCUPY WALL STREET ومشتقاتها في الولايات المتحدة وأوروبا. وفي الطبعة الأميركية، ركّزت حركات الاحتجاج على النواحي الاقتصادية، بدلاً من السياسية في العالم العربي، وجاءت كردة فعل على عقود من هيمنة آليات السوق وما أفرزته من مظاهر الظلم الاقتصادي، على حساب القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وانتشرت حركات الاحتجاج بين الطلبة، وتغلغلت في الدوائر الأكاديمية، حتى وصلت إلى أكثرها عاجيةً، جامعة هارفارد. خذ مثلاً هذا الكتاب البديع الذي كتبه أستاذ الفلسفة السياسية فيها البروفيسور مايكل ساندل بعنوان "ما لا يستطيع المال شراءه: الحدود الأخلاقية للأسواق". وهو كتاب يوجه نقداً لاذعاً للاعتماد شبه الكلي على آليات السوق، التي يقول إنها دخلت في جميع مناشط الحياة وأصبحت خارج السيطرة. وانظر إلى هذه الأمثلة التي يوردها ساندل من الواقع الأميركي:
1. في مدينة "سانتا آنا" بكاليفورنيا، يستطيع السجين الغني أن يستأجر زنزانة خمس نجوم بدفع 90 دولاراً لليلة.
2. بإمكان المرأة التي لا تستطيع الحمل بالطرق الطبيعية أن تتفق مع "أم بديلة"، وهي امرأة أخرى تحمل جنينها بدلاً منها، مقابل مبلغ يتراوح بين ثمانية آلاف دولار للمرأة من دولة فقيرة، و25 ألف دولار للأميركيات.
3. تستطيع في أميركا تأجير مساحة على جسمك لاستخدامها في الإعلانات. فعلى سبيل المثال، حصلت أمٌّ في ولاية يوتاه على عشرة آلاف دولار مقابل موافقتها على وضع وشم دائم به عنوان كازينو للقمار على جبهتها! وبرّرتْ ذلك بأنها في حاجة للمبلغ لدفع الرسوم الدراسية لابنها.
4. تتم بصفة روتينية تجربة الأدوية الجديدة على متطوعين من الفقراء، مقابل مبلغ 7500 دولار في المتوسط، ويعتمد المبلغ على خطورة الدواء وأعراضه الجانبية.
5. بعض المستشفيات الخاصة لا تعطي المريض رقم جوال الطبيب إلا بعد دفع رسوم إضافية، وتقدم خدمات خاصة أخرى مثل إعطاء مواعيد في نفس اليوم، مقابل شراء عضوية سنوية تتراوح قيمتها بين 1500 و25000 دولار.
6. تدفع شركة عسكرية أميركية خاصة مبالغ تصل إلى ألف دولار في اليوم للمحاربين "المرتزقة" المستعدين للعمل في أفغانستان والصومال.
ولا يقتصر الأمر على أميركا، إذ يورد ساندل أمثلة من دول أخرى، فعلى سبيل المثال تسمح جنوب أفريقيا للقناصة الأثرياء بقتل حيوانات وحيد القرن المهددة بالانقراض مقابل 250 ألف دولار. أما الاتحاد الأوروبي فإنه يسمح للمصانع بتلويث الجو مقابل مبلغ معين، و"يدير" في هذا المجال سوقاً يتم من خلالها شراء وبيع الحق في التلويث، ويبلغ السعر نحو 10 دولارات مقابل طن من ثاني أوكسيد الكربون.
ومن الطرق اللطيفة التي يذكرها ساندل، أن بعض مدارس مدينة (دالاس) في ولاية تكساس تدفع لأطفال الصف الثاني الابتدائي دولارين مقابل كل كتاب يقرأونه، بالإضافة إلى الكتاب نفسه. ولكنه يعترض على ذلك أيضاً، لأنه يقول إن هذا يرسّخ المادية عند الأطفال ولا يعلمهم القيمة الروحانية والفكرية للقراءة.
وأعتقد أن من المنطقي أن نختلف حول حكمة استخدام آليات السوق في بعض هذه الأمور التي يذكرها ساندل، ولكن النقطة التي يريد أن يصل إليها واضحة. فهو يرى أننا نحتاج إلى إعادة النظر فيما أصبح شيئاً مُسَلّماً خلال العقود القليلة الماضية وهو استخدام الحوافز المالية وآليات السوق في كل شيء تقريباً، ولم يعد هناك ما هو مُقدّس يُنزّه عن تلك الآليات ويُحتكم فيه إلى معايير أعلى من القيمة المادية.
ويمكن أن ننظر إلى كتاب ساندل على أنه إعلان أو "مانيفستو" علمي لثورة الشباب ضد المادية وخاصة المتاجرة المُقَننة بالقيم الإنسانية، التي وضع لها علماء الاقتصاد خلال العقود الأربعة الماضية قواعد ونظريات يقابلها المواطن العادي بالازدراء ولكنها تحظى باهتمام ورضا الشركات والمسؤولين الحكوميين.
وكان أحد رواد هذا التوجه المادي بين علماء الاقتصاد البروفيسور غاري باكر، من جامعة شيكاغو، الذي اشتهر منذ فترة السبعينات بنظرياته الجريئة لتفسير التصرفات الإنسانية بدوافع مادية بالدرجة الأولى، وبالتالي يمكن معالجتها وتقييدها أو تشجيعها عن طريق آليات السوق.
فعلى سبيل المثال يرى باكر أن قرارات الأفراد والأسر المتعلقة بالزواج والطلاق والإنجاب وعدد الأطفال وغيرها تحددها اعتبارات مالية بالدرجة الأولى. فحسب زعمه، نظراً إلى أن عملية الطلاق مكلفة للأزواج الأغنياء أكثر من الفقراء، فإن معدلات الطلاق بينهم أقل!
ويرى باكر كذلك أن قرارات المرأة المتعلقة بالإنجاب أوالدخول في سوق العمل يحكمها الاقتصاد. فالمرأة المتعلمة التي يمكن أن تعمل في وظيفة مجزية يُصبح جلوسها في المنزل بسبب الإنجاب مكلفاً للأسرة، وهذا يفسر قلة عدد الأطفال لدى المرأة المتعلمة المؤهلة تأهيلاً عالياً.
واشتهر من نظريات باكر قوله إن استثمار الأسر في تعليم أطفالها ليس دافعه الحب بل دافعه مادي كبرنامج توفير وتقاعد لها، وصمّم نماذج رياضية معقدة ليُثبت نظريته.
ومن أكثر نظريات باكر إثارة للجدل اقتراحه شراء وبيع الأعضاء البشرية في سوق مفتوحة، وقدّر وقتها قيمة الكلية بخمسة عشر ألف دولار، والكبد بمبلغ 32 ألف دولار. وقد هاجمت المنظمات الطبية هذا المقترح، لأنه يؤدي إلى استغلال الفقراء، وفي شهادة أمام الكونجرس وصفت "المؤسسة الوطنية الأميركية للكلى" هذه الأطروحات بأنها غير أخلاقية وغير عادلة، لأنها تعني أن تذهب الأعضاء للأغنياء بدلاً من أكثر الناس حاجة من الناحية الطبية.
وعلى مدى العقود الماضية، هاجم النقاد نظريات باكر الأخرى، ولكن ذلك لم يمنع من انتشارها وقبولها كأمور مسلمة، وحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1992 اعترافاً بأهميتها.
ولكن كتاب مايكل ساندل الجديد يمثل أحدث وأقوى رد على تلك النظريات التي حولت القيم الإنسانية إلى سلع مادية يمكن بيعها وشراؤها كغيرها من السلع. وقد أصبح ساندل بهذا الكتاب، نجماً مرغوباً على شاشات التلفزيون، مستمداً قوته وشعبيته من حركات الاحتجاج التي ألهمها الربيع العربي.