قال لي وهو يحاورني: لماذا نجد بعض الدعاة الشرعيين يُحْدِثون الصخب والضجيج والإثارة، وهل ترى أن تقليل كمية دراسة العلوم الشرعية فيه حماية للمجتمع من الغلو والتطرف؟

فقلت له: سؤالك هذا يحتاج إلى جواب تفصيلي، لكني سألخص الجواب بما يلي:

-1 العلوم الشرعية لا تؤسس للتطرف قط، بل هي خط الدفاع الأول للوقاية من الإجرام والعنف والصخب والضجيج، ومن ظن غير ذلك فقد ظن بالله ظن السوء، لأن مقتضى هذه الدعوى التي نقلتَها هي: أن الله شرع لنا دراسة العلوم الشرعية، ورفع شأن أهل العلم بما شرعه سبحانه، بل وصلّى عليهم وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها والحوت في البحر، مع كون تلك العلوم سبباً للتطرف والغلو والشر، وهذا لا يقوله عاقل يفقه ما يقول.

والصواب: أن تكثيف دراسة العلوم الشرعية سببٌ للوسطية والاتزان وحفظ الضرورات الخمس، ولزوم البيعة والإمامة والسمع والطاعة لولي الأمر، لأن النصوص الشرعية تأمر بذلك، وهي كثيرة ومعلومة تضمنتها المقررات الدراسية، وإن شئت دليلاً واقعياً فانظر إلى مواقف طلاب العلم في المملكة العربية السعودية وخطباء المساجد ممن لم تصبهم لوثات مستوردة من أفكار الأحزاب الضالة، انظر إلى موقفهم أيام ما سمي بالربيع العربي وثورة حنين، تجد أنهم وقفوا سداً منيعاً أمام الثورات والفتن والخروج، وصار العلم الشرعي الذي درسوه في شأن البيعة والإمامة والسمع والطاعة سلاحاً لهم في تثبيت الناس وتوجيههم للزوم إمام المسلمين وتفويت فرص الأعداء، مما جعل الأمير نايف رحمه الله يقول للخطباء آنذاك: (لقد رفعتم رؤوسنا أمام العالم).

بينما أصحاب التيارات الإخوانية والليبرالية التي لم ترفع بالعلم الشرعي رأساً، كانت تؤيد الثورات، وتغريدات كثير منهم شاهدة بذلك.

-2 لم تكن بعض الدول التي وقعت فيها الثورات والفتن والخروج، تُعنى بتكثيف دراسة العلوم الشرعية في مدارسها، فهل صار ذلك مانعاً لها من الإرهاب؟ والجواب: كلا، بل العكس هو الصحيح، ثم إن الخوارج المارقين كابن لادن والظواهري والمسعري والفقيه ليست دراستهم شرعية كما هو معلوم، ولو درسوا العلم الشرعي وفق المنهج النبوي، الذي سلكه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، لكانوا أبعد شيء عن الشر والفتن.

ومن درس الشريعة فضلَّ فذلك بسبب أفكار حزبية سياسية مستوردة وليس بسبب العلم الشرعي.

ونحمد الله أن العلوم الشرعية في بلادنا المملكة العربية السعودية لها الصدارة، وفيها غزارة علمية، جزى الله ولاة أمرنا كل خير.

فإن قيل: إنها جُمِعَت هذا العام في بعض المراحل التعليمية في كتاب واحد، فالجواب: إن كان المحتوى قويا كا كان سابقا فما المانع أن تكون في كتاب واحد، فالعبرة بالكيف لا بالكم، وخير الكلام ما قلّ لفظه وكثر معناه، وقد درسناها في المراحل الابتدائية قديماً في كتاب واحد، واستفدنا منها فائدة كبيرة، كما درسنا سابقا خمس كتب في الرياضيات، والآن هي في كتاب واحد، وهذا أمر تتظيمي، فلا حاجة للتوجس والتشكك، وثقتنا بولاة أمرنا لا حدود لها، فهم أهل التوحيد وأنصاره.

-3 ربما أن أصل الإشكال لديك أنك لم تُفرّق بين العالم الشرعي، وبين دعاة الضلال الحركيين، فتوهمتَ أن ضلال الحركيين هو بسبب العلم الشرعي، والصواب: أن ضلالهم بسبب مطامعهم السياسية والثورية، وهذا ما جعلهم يلوون أعناق النصوص لتتوافق مع مطامعهم السياسية.

فالإشكال إذن: هو بالحَرَكي الحزبي وليس في العلوم الشرعية.

فقال: هل بالإمكان أن تذكر لي أمثلة تبين لي الفرق بين تعامل العالم الشرعي مع النصوص الشرعية، وبين تعامل الحركي الحزبي معها؟

فقلت: نعم، انظر على سبيل المثال إلى مواقف علمائنا كابن باز وابن عثيمين والمفتي والفوزان وغيرهم من العلماء الراسخين، تجدهم وقفوا سداً منيعاً ضد الأهواء والفتن، وكانوا في صف قيادتهم يأمرون بالسمع والطاعة، ويحذرون من الفتن والشغب، وإذا أفتوا في فتوى معينة كتحريم كشف وجه النساء لغير المحارم، أو عدم الاكتتاب في معاملة مالية معينة، فإنهم يقولون ما يعتقدون وفق الدليل، ولكنهم لا يتخذون هذه الفتاوى سُلَّماً للتهييج والإثارة والفتن، ولا يوظفونها لمآرب سياسية مناوئة، ولا يصادرون قول مخالفيهم من العلماء، ثم إن الحفاظ على كيان الدولة وأمنها حاضر لديهم بقوة، ولا يسمحون بشطر كلمة تُقلِّل من شأن الدولة وولي الأمر، فقد تتلمذتُ عليهم ورأيتُ ذلك منهم عَياناً بيانا.

بينما دعاة الضلالة الحركيون إذا أتوا إلى هذه المسائل ونحوها، فإنهم يشحنون العامة للتهييج، فيقولون: إن البلاد تتعرض لمؤامرة تغريبية...إلى آخر تحريضهم الثوري، فهم يوظفون المسائل الشرعية لمآرب سياسية، بل وحتى الأمور التنظيمية الإدارية كدمج رئاسة البنات مع التعليم جعلوها مفاصلة وصاروا يُهيِّجون ويُشاغبون، ثم إن الإساءة للدولة وكيانها وأمنها حاضرة لديهم بقوة، وهنا الفرق بين العالم الشرعي، والداعية الحركي.

ولذلك انظر إلى ما كتبه الإمام محمد بن عبدالوهاب في كتبه ورسائله منذ 300 سنة، فإن ما كتبه لم يكن في يوم من الأيام سببا للتهييج والفتن، بل كان سببا للزوم الناس أئمتهم من آل سعود، ودولتهم السعودية في جميع أدوارها الثلاثة، بينما الآن نلاحظ أن الحركيين الحزبيين يحاولون توظيف كلام الإمام محمد وعلماء الدعوة لمآربهم السياسية، والعيب فيهم وليس في علم أئمة الدعوة، بل إنهم يوظفون الآيات القرآنية لمنهجهم العدواني، والعيب فيهم، وحاشا كتاب الله أن يدل على باطل، فإياك أن تظن أن الشريعة وعلومها ودعاتها تؤسس للعنف، فهذا ما يريده أعداء الإسلام، وأهل الثورات والفتن.