ولإدراك المملكة أن مهمة ترسيخ عناصر التسامح تبدأ من المجتمعات، فقد ركزت منذ توحيدها على تعزيز قيم المساواة بين مواطنيها، وتجلى ذلك في إرساء دولة القانون، وإزالة كافة العناصر التي تؤدي للتمييز بين أبناء الوطن الواحد، فجعلت مقياس التفاضل الوحيد هو المواطنة الصالحة، دون النظر لأي اعتبارات مناطقية أو مذهبية.
وفي عصرنا هذا قطعت المملكة شوطا كبيرا من خلال رؤية المملكة 2030 التي ركزت على إشراك جميع القدرات الوطنية في عملية التنمية، وإجراء إصلاحات حقيقية تستوعب كافة الشرائح في عملية البناء والنهضة، تتعلق بتمكين المرأة وتفعيل دور الشباب في مسيرة التنمية، إضافة إلى إجراء ثورة تشريعية متكاملة هدفت إلى تعزيز مفاهيم حقوق الإنسان وجعلها جزءا أصيلا من الثقافة المجتمعية.
ولم يقتصر العمل بتلك المبادئ على الداخل السعودي فقط، بل إن الرياض بذلت جهودا مقدرة لإعلاء قيم التسامح والتجاوز على الصعيد العالمي، وقامت في كثير من الأحيان بنزع أسباب التوتر بين الدول الأخرى، وتدخلت إيجابا بالتوسط لحل كثير من النزاعات التي كانت سببا في توتر استمر لعشرات السنين، على غرار نجاحها في إنهاء الخلاف بين إريتريا وإثيوبيا من جهة، وبين إريتريا وجيبوتي من جهة أخرى، وهو ما أسهم في عودة السلم والاستقرار لمنطقة القرن الإفريقي.
وفي ذات الوقت أسهمت المملكة في تعزيز مفاهيم الحوار ونشر ثقافة التسامح والتصدي لتيارات العنف والتطرف عبر تشجيع التعايش والتفاهم بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة، ويتجلى ذلك الإسهام في تأسيس المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال)، ومركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات.
خلال الأسبوع الماضي تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع مشروع القرار الذي قدمته المملكة لتعزيز ثقافة السلام والتسامح لحماية المواقع الدينية. وهو ما مثل انتصارا جديدا للدبلوماسية السعودية التي تثبت كل يوم اهتمامها المتزايد بتعزيز التعاون الدولي والإقليمي الذي يهدف إلى دعم القدرات الوطنية للدول لمنع الهجمات على أماكن العبادة، ودعوتها إلى تعزيز التثقيف وبناء القدرات من أجل التصدي للتحريض على العنف، وتعزيز القيم المشتركة التي تقوم على تشجيع الوحدة والتضامن والحوار بين أتباع الأديان والثقافات.
ووجد مشروع القرار السعودي إجماعا منقطع النظير من كافة الدول الأعضاء التي اتفق ممثلوها على ضرورة النأي عن كل ما يمكن أن يمثل سببا لاستفزاز الناس في دياناتهم ومعتقداتهم، لأن أعمال العنف أو التهديد التي ما زالت ترتكب ضد المواقع الدينية أو تدميرها أو إلحاق أضرار بها هي السبب الرئيسي في حالة عدم الاستقرار التي يعيشها العالم، وهي التي تمنح دوائر التطرف والإرهاب الفرصة للبقاء والقدرة على تجنيد الأتباع وخداع البسطاء، لذلك فإن القضاء على آفة التطرف تستلزم إلزام الجميع بمراعاة كافة الأديان والمعتقدات، واحترام أماكن العبادة وعدم السماح بطمس هويتها، والتعامل معها على أنها أماكن للسلام تمثل تاريخ الناس ونسيجهم الاجتماعي ويجب تقديرها.
الدعوة السعودية تأتي في وقت باتت فيه الإنسانية أحوج ما تكون إلى العمل الجاد لنشر ثقافة السلام على كل الصعد وفي مختلف أنحاء العالم، وتفعيل مساعي تعزيز ثقافة السلام والتسامح والحوار. لاسيما في ظل انتشار الصراعات في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، كنتيجة طبيعية للتدخلات السالبة التي يقوم بها النظام الإيراني في دول الجوار، لتصدير الأزمات عبر إحياء خلافات طائفية عفا عليها الزمن، وتجنيد ميليشيات مذهبية ارتضت العمالة ضد أوطانها واستخدامها لنشر الفتن والأزمات، وتسليحها بأدوات الموت والدمار.
ورغم الجهود التي بذلتها دول المنطقة والمنظمات الدولية لإيجاد حلول سلمية لما تشهده تلك الدول من نزاعات، إلا أن استمرار النظام الإيراني في سياساته التدميرية السالبة، وعدم احترامه لمبادئ سيادة الدول، والتدخل في شؤونها وزعزعة استقرارها، كان هو السبب الرئيسي في استمرار عوامل الخلافات التي تعصف بالسلام والنسيج الاجتماعي لتلك الدول.
والمملكة عندما تقوم بهذا الجهد فهي تنطلق من رؤية خاصة بها، فبالإضافة إلى الحرص على عكس حقيقة شعبها الذي عرف على مدار التاريخ بخصاله الكريمة المستمدة من عمقه العربي الأصيل وتقاليده الضاربة بجذورها في أرض التاريخ، فإن المكانة الفريدة التي تتمتع بها وتمتاز بها على سائر دول العالم، بوصفها مهد الرسالة الإسلامية وحاضنة الحرمين الشريفين، والأرض التي تهفو إليها قلوب ما يزيد على مليار ونصف المليار مسلم في شتى أنحاء الأرض، تفرض عليها أن تكون قدوة في التعامل مع بقية الدول التي تنظر إليها على أنها قائدة المسلمين وكبيرة العرب، وهي مسؤولية عظيمة رعتها المملكة حق رعايتها وقامت بها على الوجه الأكمل، مما أكسبها صورة ذهنية مشرقة عند الآخرين، وأضاف لها قدراً كبيراً من الرصيد الإيجابي.