لم تكد تمض أيام قلائل على اتهام وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، لإيران بعدم الجدية في طلب مفاوضات مع دول الخليج، والمناورة ومحاولة شراء الوقت، حتى أثبت النظام الإيراني تلك التهم على نفسه بيانا بالعمل، من خلال الصاروخ الذي أطلقته ميليشيات الحوثيين الإرهابية على العاصمة الرياض، وأسقطته الدفاعات السعودية قبل وصوله إلى هدفه المحدد. فالكل يعلم أن الحوثيين مجرد عميل لنظام طهران، لا يجرؤ على اتخاذ قرار بإطلاق صاروخ باليستي على أي هدف إلا بإشارة طهران وموافقتها المسبقة، بل إن تلك الميليشيات لا تمتلك أصلا القدرة والإمكانات الفنية التي تؤهلها لإطلاق الصاروخ، ويسيطر عناصر الحرس الثوري وكوادر حزب الله على مفاصل القرار المتعلق بتلك الصواريخ ويتولون إطلاقها.

أما التهليل الذي قابل به وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الدعوة التي أطلقتها قطر لحوار بين طهران ودول الخليج فلم يكن أكثر من مناورة سياسية لتحقيق مكاسب سياسية، لا سيما أنها أتت في وقت تسلمت فيه إدارة جديدة مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، وكأن طهران تريد إرسال رسالة للرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن، مفادها أنها منفتحة على الحوار، وجادة في حلحلة المشكلات القائمة.

بدءا ينبغي التأكيد على أن محاولة إطلاق الصاروخ على الرياض لإيقاع أكبر قدر من الضحايا المدنيين هي محاولة محكوم عليها مسبقا بالفشل الذريع، لأن الدفاعات السعودية المتطورة قادرة - بحول الله - على رصد الصاروخ وتدميره في المكان والزمان اللذين تحددهما الجهات المسؤولة. ومع أن إيران والحوثيين يدركون هذه الحقيقة إلا أنهم يتمسكون بتلك الخطوة اليائسة لمجرد لفت الانتباه ومحاولة رفع الروح المعنوية المنهارة لقواتهم التي تعاني من التراجع المستمر في جبهات القتال على وقع الضربات المتلاحقة التي توجهها لها القوات المؤيدة للشرعية وعناصر المقاومة الشعبية، بإسناد جوي كثيف توفره طائرات التحالف العربي لدعم الشرعية.

المراقب لسياسة النظام الإيراني منذ قدومه في أواخر سبعينيات القرن الماضي يلحظ بوضوح أن طهران لا تستطيع العيش دون وجود عداوات مع الآخرين، بدءا من افتعال الحيثيات التي قادت إلى الحرب مع العراق، ومرورا باحتلال الجزر الإماراتية واختلاق الأزمات في البحرين ولبنان والعراق وسورية.

كل تلك الأزمات تستغلها طهران لمحاولة التغطية على برنامجها النووي المثير للجدل. وربما أصابت قدرا من النجاح في تلك السياسة من خلال الاتفاق النووي الضعيف الذي وقعته مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وهو الخطأ الذي صحّحته إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، التي انسحبت من الاتفاق وفرضت على طهران عقوبات اقتصادية غير مسبوقة.

وجه الغرابة في إيعاز نظام الملالي للحوثيين بإطلاق الصاروخ على الرياض تكمن في سوء التوقيت، فقد جاء في وقت تترقب فيه طهران رد فعل الإدارة الأمريكية الجديدة وموقفها من الاتفاق النووي، وتطلق فيه بالونات اختبار عبر تصريحات عدد من مسؤوليها، وكان المنطق يفترض على النظام المارق أن يتظاهر بحسن السلوك مع الآخرين لتشجيع واشنطن على اتخاذ مواقف إيجابية معه، لكن الغباء السياسي المستحكم في النظام دفعه للتعجل والإقدام على تلك الخطوة المتهورة، تماما كالأحمق الذي يأخذ إصبعه ويضعه داخل عينه.

في المقابل فقد تعددت المكاسب السياسية التي جنتها المملكة من الحادث، فقد أكدت بما لا يدع مجالا للشك صواب رؤيتها وصدق ما قاله وزير خارجيتها بأن النظام الإيراني غير جاد في دعوته للحوار، وأن الأسلوب الوحيد الذي ينبغي اتباعه معه هو المزيد من التشديد وفرض عقوبات إضافية. ولم تكد المملكة تعلن عن إسقاط الصاروخ حتى تسابقت معظم دول العالم على إدانة الحادث بأشد العبارات، داعية إلى تشكيل موقف دولي موحد ضد التجاوزات الحوثية المدفوعة من إيران، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعلانه أن المملكة ودول المنطقة ستكون طرفا أصيلا في أي اتفاق مع إيران مستقبلا.

كذلك فقد خفتت الأصوات التي كانت تعارض تصنيف الخارجية الأمريكية لجماعة الحوثيين كمنظمة إرهابية، ولم يجد أصحابها ذريعة يتحجّجون بها، بعد أن أثبتت الجماعة من جديد وبالأفعال أنها إرهابية بامتياز، وأن الخطر الذي تشكله اليوم سوف يتعاظم حتما في المستقبل - إذا لم يتم التعامل معه بالحسم الذي يستحقه - ليهدد حركة التجارة العالمية عبر محاولات زراعة الألغام في مسارات الملاحة الدولية، وأن محاولاتها لاستغلال شعارات المظلومية والادعاء باحتمال وقوع مجاعة في اليمن نتيجة لوقف المساعدات الإنسانية، ما هي إلا استثمار لأخطاء المجتمع الدولي في التعامل معها.

وليس من المستبعد أن النظام الإيراني الذي يعاني من التدهور الاقتصادي الكبير، والتراجع غير المسبوق في مستوى معيشة شعبه قد أراد من الفرقعة الإعلامية للصاروخ الحوثي التغطية على النجاحات المتلاحقة التي تحققها المملكة، وصرف الأنظار عن الإنجازات الكبيرة والمشاريع التي أعلن عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فيما يتعلق بصندوق الاستثمارات السعودي، والفرص الاستثمارية الهائلة المتوفرة في المملكة، فلم يجد النظام اليائس غير ذلك الأسلوب البائس للرد، في محاولة لحجب ضوء الشمس بقطعة قماش مهترئة.

أخيرا فإن كثيرا من الشواهد تؤكد أن النظام في إيران يعاني ضمن مشكلاته الكثيرة من تعدد مراكز اتخاذ القرار، وعدم وجود مرجعية سياسية موحدة، فبينما يتظاهر الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف برفض التصعيد في الوقت الحالي، فإن قيادة الحرس الثوري التي تسيطر على دفة الأمور تقف موقفا مغايرا، وتدعو إلى التمسك بالمواقف المعلنة، والسير في نفس السياسات العقيمة التي أوردت البلاد موارد الهلاك. وحتى إذا صحّ هذا التصور فلا أرى أن نظاما بهذه الكيفية جدير بالثقة أو يستحق التعامل معه.