رحل الجواهري، رحل بعد 100 عام من التمرد والشعر والبحث، وبعد أن تحول إلى أسطورة. وإذا كان تاريخ الأدب يحدثنا عن مبدعين كانوا كباراً في حياتهم، ثم أخذوا «ينكمشون» بعد رحيلهم، وبمرور الوقت لم يبق منهم إلا الأسماء وضمن قوائم طويلة، فإن هذا التاريخ يحدثنا عن مبدعين غنوا في حياتهم، ثم اكتشفوا بعد رحيلهم ورد إليهم الاعتبار، ثم تحولوا إلى أساطير، لأن الخيال الشعبي بحاجة دائمة إلى الغذاء. ولعل الأسطورة أحد مصادر هذا الغذاء خاصة حين تضمر أو تجف المصادر الأخرى. ويحدثنا تاريخ الأدب أيضاً عن مبدعين يتحولون وهم أحياء إلى أساطير، ويبقون كذلك بعد رحيلهم، رغم أن هؤلاء قلة وظواهر نادرة إلا أنهم موجودون، ولعل الجواهري واحد من هذه القلة النادرة. فإن لا تُعرف سنة ميلاد شاعر، ولد أواخر القرن الماضي، أو أن يختلف على هذه السنة، أمر طبيعي، ويكاد يتكرر في حالات عديدة خاصة حين كانت تؤرخ الولادات بالأحداث الطبيعية، كأن يقال سنة الطوفان أو سنة المحل، أو بالأحداث السياسية الكبيرة كأن يقال سنة تولي السلطان أو وصول الوالي فلان. أما أن لا تعرف سنة ميلاد شاعر كالجواهري، أو أن تبقى موضع تساؤل أو اختلاف، ففي الأمر بعد إضافي خاصة وأن السؤال أخذ يتكرر بإلحاح في السنين الأخيرة، وربما من أبعاده الإعجاب الذي يبلغ حد العجب: في هذا العمر المتقدم والجواهري يأبى أن يشيخ من حيث الشاعرية والذاكرة، كما لا يريد أن يلقي سلاحه، واكتشف هو قبل الآخرين، ما يكمن وراء السؤال، لذلك أصبح يعتبر الأمر من جملة أسراره، يلمح إليه بغموض دون رغبة لأن يخوض فيه إلى النهاية!

هل كان يخشى الغيرة أو يخاف من الحسد؟

أظن أن الجواهري أحد الذين لا يخافون، ولكن لا يحب ضيق العين كما يقال، إذ يحس وكأن وراء سؤال الذين يسألون أنه أخذ من أعمارهم في الوقت الذي يود لو أنهم تركوه يتدبر أمره مع هذا الزمان!

في الفترة الأخيرة وأثناء لقاء مع أحد أبناء الجواهري نجاح، وحين جرى الحديث عن عمر أبيه وقد أصبح مثل هذا الحديث كاللازمة تماما مثل حديث الإنكليز عن الطقس، قال نجاح بمرح: إن أبيه أكمل من العمر قرنا كاملاً.. ولكن بالتقويم الهجري! أما قبل 20 عاماً وحين سُئل الجواهري عن عمره -وكان ضمن جماعة- فقد تظاهر أنه لم يسمع السؤال، وحين كرر عليه السؤال، تبرع أكبر أبنائه فرات وكان موجودا أن يجيب قال: «يتذكر مسنو العائلة أن الجواهري ولد في نهاية القرن الماضي، أي سنة 1898 أو 1899 ومعنى ذلك أنه يقترب من...» ولم يكن الجواهري يتابع صرخ في وجهه بغضب: «انشب (أي اسكت) أنت أكبر مني!»، ومضى فرات قبل أبيه، مضى قبل سنة تقريبا، ولم يُعلم الجواهري بغيابه! وأن يعيش إنسان كالجواهري قرناً كاملا وهو قرن لا يملكه أي من القرون الأخرى خاصة في العراق، من الدولة العثمانية إلى السقوط فالاحتلال البريطاني ثم ثورة العشرين فإقامة مملكة أحد أبطالها نوري السعيد، وعبقرية هذا الرجل في تأليب الخصوم وخلق العداوات، ثم انقلاب بكر صدقي فثورة رشيد عالي فالوثبة، ثم حلف بغداد إلى سقوط النظام الملكي وقيام ثورة تموز 1958 وما تلاها من عواصف وتبدلات بدأت ولم تنته، بعد أن يعيش إنسان كالجواهري هذه الأحداث، وأن يكون قريبا منها بنسبة أو أخرى وبعض الأحيان مشاركا أو معارضاً، وباعتباره الناطق الرسمي، وقد انتدب نفسه لهذه المهمة لشعب مرت عليه تلك الأحداث، لا بد أن يكون إنساناً خارقاً وأقرب إلى الأسطورة. في يوم ما إذا أريد التأريخ لعراق القرن العشرين فإن أحد أهم المصادر: الجواهري، فحين يبدأ مطلع القرن وعمره سبعة عشر عاما، لينشد في الوفود، وحين يكون أحد شعراء ثورة العشرين، ثم ليكون من أقرب الناس إلى الملك فيصل الأول، وبعد ذلك يعبر السنين والعقود، وفي كل منها معارك لا تهدأ ولا تتوقف، والجواهري في طليعة الصفوف، ينشد ويحرض ثم يسجل، فإن من خلاله يمكن أن نقرأ تاريخ العراق الحديث.

يصعب أن نجد شاعراً عربياً انخرط في قضايا عصره كالجواهري، إذ بالإضافة إلى كونه شاعراً لا يقارن بأي من معاصريه، فقد كان نائبا لبعض الوقت وصحفيا لوقت أطول، وكان مواليا لبعض المواقف ولبعض الأشخاص، لكن الصفة التي ميزته أنه معارض أبدي، حتى الأحزاب السياسية لم تستطع أن تروضه أو أن تستوعبه، وربما كان شعوره أنه أكبر منها وأكثر تأثيراً. لا يعني ذلك الاتفاق معه على مواقفه كلها أو اعتبارها أكثر صحة من مواقف الآخرين، ولكنه ظل يتعامل مع السياسة من موقع أنه يمثل العراق كله، وأن ما يعنيه الأكمل والأجمل دون الخضوع لليومي والجزئي أو ما يعتبره السياسي ممكنا، وهذا ما أقام مسافة بينه وبين الأحزاب والسياسيين المحترفين إلا بمقدار ما يقترب الآخرون منه ومن رؤيته، وليس العكس. كان الجواهري حزبا بمفرده أو بكلمات أخرى: كان رئيس حزب أفراده الشعب العراقي بأجمعه.