في ليالي «الخُليف»، وهي الليالي التي تمتد من مساء السابع من شهر ذي الحجة إلى مساء الثاني عشر منه، عندما كانت تخلو جدة من كثير من أهلها الذين يأخذهم الحج وخدمة ضيوف الرحمن إلى مكة المكرمة فلا يبقى فيها إلا أكثرية من الشيوخ والنساء والأطفال. كانت تأخذنا والدتي مع شقيقي وجدتي إلى بيت خالتي في حارة الشام لنمضي تلك الليالي هناك.. حتى تستكين نفوسنا بهذه اللمة، ويهدأ روعها من قصص الخوف وروايات الرعب التي كان يتداولها أهالي جدة عن تلك الليالي..

وما يحدث فيها من سرقات واقتحامات أسطورية للدور والمنازل، كقولهم في واحدة من تلك الروايات المفزعة والرائجة بأن لصين أو ثلاثة حاولوا بعد منتصف الليل سرقة أحد المنازل، ولما لم يتمكنوا من فتح باب المدخل أو كسره بهدوء، ألقوا بحبلين في نهاية كل منهما «خُطاف» – أو كُلاب – كانا في معيتهم إلى روشان الدور الأول، ثم تسلقوا على الحبال حتى وصلوا إلى داخل المنزل وسرقوا ما شاؤوا، وعندما تنبه أهل المنزل لوجودهم وحاولوا الإمساك بهم لم يتمكنوا لشدة سمرتهم التي كانت تخفيهم عن الأنظار، فلا يبينون في ظلمة الليل، وقد ارتدى كل واحد منهم إزارا يستر عورته ودهن بقية جسمه بالشحم أو الزيت حتى ينزلقوا من أيدي أصحاب المنزل إذا حاولوا الإمساك بهم.. فكانت خالتي تدعو بالاتفاق مع جدتي ووالدتي «الفقيهة» حسينة عشين لتمضي معنا تلك الليالي.. لا لتزيد من عددنا، ولكن لتؤنسنا بـ«حضورها» و«أحاديثها» الجميلة فتطوي بذلك ليل الخوف من قلوبنا.. فكانت تحكي لنا في كل ليلة من تلك الليالي.. ونحن على «السطح» وتحت سماء جدة الصافية إلا من كواكب تفيض بالسحر والغموض، وفوانيس وأتاريك تتناثر هنا وهناك.. وكأنها نجوم حالمة على امتداد الأزقة وأسطح البيوت المتلاحمة حولنا. كانت «حكاويها» الجميلة تأخذنا إلى عوالم بعيدة. بعضها ندركه وبعضها لما تطلعنا أعمارنا الغضة عليها بعد.. فلم يكن ليُسمع في صمت ليالي «الخليف» وسكونها وهي تقص علينا تلك القصص الرائعة إلا أصوات أنفاسنا المأخوذة والمبهورة، ونحن نحلق ونهبط مع حبكتها الدرامية، وأحسب أن بذرة «ما» قد زرعت في وجداني على يد هذه السيدة الجليلة في تلك الليالي.. وأنا لما أتجاوز التاسعة من العمر، ربما كانت تلك هي بداية علاقتي مع الأدب والفكر.. مع «الكلمة» لكأنها كانت «شهرزاد».. وهي تحكي ولكأننا كنا في إصغائنا من حولها.. كصحبة تسللت إلى مخدع «شهريار»: الملك الحالم والمجروح.. لتشاركه الاستماع إلى «شهرزاد» وهي تحكي وتقص قبل أن يدركها الصباح وتسكت عن الكلام المباح.

كانت الفقيهة حسينة معلمة قرآن لأطفال الحارة في بيتها بسوق الندى.. بحارة الشام وهي جارية سمراء من سراري بيت باعشن، ولكنها كانت على قدر كبير من الوسامة، وقد تزوجها رب الدار فيما بعد ربما لعقلها وحكمتها وربما لوسامتها التي لابد وأنها كانت مثيرة باهرة في شبابها، ثم مات وترك لها مالا يكفي لسد حاجتها وأكثر، فاشترت ببعضه بيتا أقامت فيه، ثم أنشأت به مدرسة تقتات منها. وقد احترفت صديقتها جدتي مهنة التعليم مثلها فيما بعد أيضا. فكانت تدرس الهجاء والقرآن للبنات في منزل العائلة بحارة البحر بعد أن وجدت أن لا مفر أمامها غير أن تعمل لمساعدة هذين اليتيمين شقيقي وأنا – وأمهما (زوجة ثاني أبناء زوجها).. كنت صغيرا ويتيم الأب منذ الثانية.. في أسرة متوسطة الحال أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى، ولكننا لم نكن كذلك في زمن قريب مضى فقد كان جدي عبدالله مناع الكبير شيخا لـ«المعادي»، أولئك البحارة الذين عاشت بهم وعلى جهودهم جدة قرونا طويلة، عندما كانوا على امتدادها ينقلون بقواربهم الصغيرة وسنابيكهم الخشبية الكبيرة ولنشاتهم البخارية – فيما بعد – الركاب والبضائع بين البواخر الواقفة في عرض المياه العميقة.. والمرفأ، قبل إنشاء السقالة أو الميناء الجديد الحالي، ولم يكن شيخ حرفة لينتخب في ذلك الزمن من أقرانه إلا لحكمة وخبرة واسعة حال بمقاييس ذلك الزمان، فقد كان لبيت المناع عبدان وجارية وثلاثة من المزاورية – مساعدون – على الأقل، وعدد من السنابيك واللنشات، وقد اشترى جدي بيتين في حارة البحر، بعد أن قرر الرحيل عن حارة اليمن التي ضُرب فيها ثالث أبنائه لقد قال ساعتها: (والله لن أعيش في حارة يضرب فيها ابني).. ثم حمل متاعه وعائلته ورحل، في زمن كان الانتقال فيه من حارة إلى أخرى يسمى رحيلا.