بداية، لنعط أنفسنا حق استعارة مفهوم من مفاهيم العلوم الإنسانية، وهم مفهوم«الأنسنة». وهو بالمناسبة من نحت المفكر، والفيلسوف الجزائري الراحل (محمد أركون، توفي سنة 2010)؛ إذ نحتَه كتعريب للمفهوم الأوروبي الشهير «هيومانيزم». وبالرغم من أن مفهوم «الأنسنة» ُيعبِّر، في بعده النقدي، عن محاولة تكريس القيم التي تعيد الاعتبار للإنسان، بوصفه مقدسا بذاته، بعيدا عن كل الهُويات التي يكتسبها لاحقًا، إلا أننا يمكن أن نستعير المفهوم من زاوية النظر إلى البيئة بوصفها صديقة للإنسان المراد أنسنة القيم التي تحقق له كينونته. أو لنقل: إن المحافظة على البيئة، بوصفها قيمة جمالية وصحية، إحدى قيم الأنسنة، بالنسبة لللإنسان؛ وإن هذه الصداقة تتطلب بالضرورة مراعاة الشروط البيئية التي تجعلها كذلك.

تُرى، ما مناسبة موضوع هذا المقال؟

مررتُ في ضحى أحد الأيام الماضية بمواطن يقص شجرة معمرة أمام بيته، فقلتُ له: احذر أن يمر بك أحد مسؤولي البلدية الفرعية المجاورة لسكنك، أوالأمانة وأنت متلبس بجرم قص الشجرة. لم يعر المواطن أدنى اهتمام لما قلته له. واصلتُ سيري خروجا من الشارع الفرعي الذي يقع عليه منزل المواطن، ودخولا في شارع رئيسي، فكانت المفاجأة التي كدتُ معها أن أرجع إلى المواطن لأقول له«أبشر بطول سلامة»، فلا عليك، طالما رب البيت بالدف ضارب! لقد وجدتُ عمال إحدى الشركات الزراعية المتعاقدة مع الأمانة، وهم يقصون أشجار الجزيرة الوسطية في الشارع الرئيسي بكل عنف وجبروت، بحجة تهذيبها، وإنهم عن التهذيب لغافلون!

هذه التصرفات السلبية، إن لم نقل: الاعتداءات، التي تؤثر سلبا على الغطاء النباتي في منطقة صحراوية لاهبة وقت الصيف، محتاجة إلى نسمة هواء تلطفها الأشجار، تضاف إلى تصرفات سلبية أخرى عديدة، تؤكد يوما بعد يوم أن بيننا وبين بيئتنا عداء مستحكم، عداء مزمن لا ينفع معه الوعظ والإرشاد.

ومن مظاهر الاعتداء المؤلم على البيئة، ما يحصل من احتطاب جائر؛ احتطاب لا يكتفي معه المحتطبون بقص فروع شجر الأشجار المعمرة، بل إنهم يستأصلونها من جذوعها التي نبتت وترعرعت على مدار سنين خلت، حيث لا فرصة أمامها لكي تنمو من جديد.

مظهر آخر من مظاهر الاعتداء على البيئة، يتمثل في ملاحقة وقتل الحيوانات المفترسة، وهي التي تمثل لازمًا من لوازم التوازن البيئي؛ وهي اعتداءات أدت إلى انقراضها تماما من شبه الجزيرة العربية، ومنطقتنا على وجه الخصوص، جراء عدوانية الإنسان وهمجيته تجاهها. لا نزال نتذكر تلك المناظر البشعة التي كان يقوم بها أناس معدومو الحس الجمالي والبيئي بقتل ما يصادفونه من ذئاب وضباع وثعالب، ثم يعلقونها على لوحات الخطوط السريعة، افتخارًا بعمل همجي، لو كان لديهم حس بيئي بسيط، لتواروا خجلا مما فعلوه.

ومن مظاهر التعدي الأخرى على البيئة ومحاربة الجمال، ما يقوم به بعض الصبية والشباب من الكتابة على الجدران بواسطة(البخاخ)؛ أو ما يقوم به بعضهم من تشويه جدران، أو أبواب مباني المرافق العامة، بالكتابة عليها وتشويهها بمختلف مجالات التشويه.

من الجيد صدور تشريعات ولوائح تحتوي على عقوبات مادية ومعنوية على مخالفي الاحتطاب والصيد الجائرين؛ وعلى من يتعمد قتل أنواع من الحيوانات والطيور، ولكن ذلك لا يكفي، في ظني، لخلق أفراد مقتنعين بأن البيئة صديقة لهم، وبأن الحفاظ على الغطاءات النباتية، وعدم التعدي على الحيوانات بالقتل، وعلى الطيور بالصيد من واجباتهم الأساسية، فذلك لن يتأتى إلا بعد ترسيخ الفكرة في(اللاوعي)، لتكون سلوكًا تلقائيًا يسلكه الأفراد تجاه كل تشويه بصري، في أي مكان، وفي أي مناسبة. وهذا في تقديري دور الخطاب التعليمي في كل مناشطه، والذي عليه أن يستخدم أسلوب التعليم بالتكرار، والطَرْق على(اللاوعي) لإدخال قيمة الاحتفاء بالجمال بشموليته فيه، حتى يشب الطالب في مراحل التعليم المختلفة، خاصة الابتدائية والإعدادية منها، على النظر إلى الجمال، ومنه البيئة بكل مكوناتها، على أنها عنصر أساسي من عناصر الحياة الجيدة.