أريد أن أبكي بلا استئذان من رئيس التحرير، وهل في البكاء استئذان؟! وأول البكاء على كلمة «التحرير»، التي طرقت أذني صغيرًا في وصف رئيس منظمة «التحرير» الفلسطينية، وعندما كبرت عرفت أن «الكلمة» من شدة خطورتها تحتاج إلى رئيس «تحرير».

أريد أن أبكي كل العقول التي التقاها محمد رضا نصر الله في ريعان شبابه، تمنيت لو كنت رفيق هذا السائح المتجول في تلك العقول النادرة، رغم كل نزعاته الواضحة في الترافع عن الهوية بالمعنى الكلاسيكي، ورغم علو هذا الترافع وسموه إلا أن الزمن منذ سقوط جدار برلين ثم سقوط برجي التجارة، مرورًا بسقوط بغداد، وحتى عبارات «فهمتكم.. فهمتكم»، و«من أنتم.. دار دار زنقة زنقة»، كل هذه الأعاصير، تجعل الهويات الكلاسيكية محل تساؤل ليتم نفض الغبار عنها، فتستبدل الأمة العربية ثوبها المهترئ بثوب يليق بهذا الزمن الشاب، فتتحول «القومية» من قيمة إلى موضة فكرية تليق بعصر السرعة الذي نحن فيه، فيعتنقها بعض المبتعثين الجدد كموضة «نضالية» لزمن لن يعود، غافلين عن تاريخ التطور في كلمة «مواطن» من اليونان حتى الآن، والتي تخرجهم من نفق «الهويات القاتلة» عند أقرب منعطف سياسي.

الأمة الإسلامية بدأت تراجع مواقفها «الغربية» المؤمنة بطريق واحد جعلها تحرق الأخضر واليابس من أبنائها في سبيل هذا الإيمان «الغربي»، لتدرك متأخرة أنها أمة «شرقية» تؤمن بتعدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر، وعلى هذا عاشت الأقليات الدينية آمنة مطمئنة في بلاد الإمبراطورية العربية طيلة ألف وأربعمائة عام، وعلى رأسها الأقلية اليهودية من جبال اليمن حتى بلاد الشام، ومن الرافدين حتى طنجة، فالأصولية الحديثة أيديولوجيا غربية، حتى ولو رأيت الأفغاني «عبد رب الرسول سياف» بلحيته الكثة الطويلة يقف خطيبًا في الناس بالآيات والأحاديث قبل أكثر من ثلاثين عامًا ليقول لك خلاف ذلك، أما الأصولية العربية فكائن شوكي يختفي مع رغد العيش، ويظهر متجولًا بأشواكه كلما زادت عليه المسغبة؛ ليحمي نفسه من قدر الميلاد بين مخالب سايكس وأنياب بيكو، ومن حقه أن يتسلح بأي أيديولوجيا في سبيل «حق تقرير المصير».


أريد أن أبكي التوحيدي الذي بكاه محمد أركون قبلي، لكن بكاء أركون كان كتبًا وأبحاثًا، وبكائي دمعة صغيرة على شكل سطر عابر، أريد أن أبكي ابن رشد كما بكاه جيل النهضة العربية الحديثة أسفًا على أمة صدَّقت «تهافت الفلاسفة» وكذَّبت «تهافت التهافت»، وما زالت تتهجى الأحرف الأولى في «المقدمة».

أريد أن أبكي ابن تيمية كرجل عانى من عنت الفهم في زمنه، وعنت الفهم في هذا الزمن، فهو مظلوم الزمنين، فتراه على لسان البغدادي «مجرد داعشي»، وعلى لسان يوسف زيدان «مجرد أصولي»، وقد عشت معه كقارئ «عادي»، فشعرت أنه يقول الشيء ونقيضه بتغير «الأحوال والأزمنة والأمكنة والعادات والأشخاص والنيات» كأي مفتٍ «فتواه غير ملزمة»؛ لنرى الصقاعين وقد انتقوا من فتاواه ما يتقاطع وطباعهم ومرادهم الخاص، متجاهلين «ثمانية قرون» بينهم وبينه، ليحولوا فتاواه إلى «دين» من خرج عنه خرج عن الإسلام، ثم ختموا ذلك بلقب ميتافيزيقي عابر للزمان والمكان «شيخ الإسلام»، فكأنما الفرق الإسلامية في دعوى «العصمة» تعيش في أزمة من «إثنا عشر إمامًا» عند بعضهم إلى بضعة أئمة عند آخرين يبدأون من الإمام «البخاري» إلى «شيخ الإسلام» ابن تيمية.

فشكرًا لعبقري الترحال في طلب العلم الذي خرج برشيم «التوحيد»، ضاربًا بالآبائية عرض الحائط، لكن الآبائية استعادت روحها من جديد فلبست ثوبه النقي، حتى اشتبه على العارفين ثوب الفكرة البريئة من استباحة الدم، مع ثوب ملطخ بالدماء، ليأتي تلاميذ أقل من مستوى الفكرة فيرتهنوا لآبائية ألبسوها من ثار على الآبائية!!، غير قادرين على نقد فكرة «تعدد التوحيد» المتكئة على تخريجات «من علم المنطق»، متجاهلة الحالة البكر في «الدين الأصيل» الذي لم يحتج سوى الفهم الفطري لمعنى «سورة الإخلاص»، متجهين إلى «الدين الأصولي» المليء بتفريعات ثلاثية، وتسميات فلسفية للتوحيد «المتنوع» لم يقل بها أحد قبل عصر المناطقة والمتكلمين.

وأخيرًا أريد أن أبكي كل ما حواه كتاب «ألبرت حوراني» من أفكار نهضوية خلال مائتي عام، كي أنتهي من «مرثية السواني»، فما يملأ الروح العربية سموًا وكبرياء، عاجز عن تسخين لقمة باردة بلا ميكروويف، فأسوأ ما في «مشاريع النهضة العربية» ثنائية «الحبر والبخور»، التي تؤكد أننا شفاهيين مهما كتبنا، وآبائيين مهما تعلمنا التحنيط العلمي وأبدعنا، ونسقيين مهما «تبلهنا/ البليهي، وتغذمنا/ الغذامي»، وأما بومة منيرفا فلن تطأ أرضنا، ولن تقف على أغصان طلحنا، فهي تعرف أنها ستشوى بعد أن يصقعها أحد الأعراب بـ«منطاب/ نباطه».