أكد التصريح اللافت الذي أدلى به ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان- حفظه الله- باستمرار المملكة في تطوير منظومتها التشريعية، وسعيها نحو إصلاح الأنظمة الموجودة، واستحداث تشريعات جديدة تضمن قدرة المنظومة القانونية وقابليتها لصيانة حقوق جميع الأطراف وضمان العدالة، وذلك كله يعكس النهج القويم الذي تسير عليه المملكة، بما يؤدي لتعزيز مكانة المملكة في كافة المحافل الدولية، ويعزز قدرتها على التنافسية في أسواق المال والاقتصاد، ودعم حقوق الإنسان، بما يجعلها جزءا من ثقافة المجتمع وتكوينه. ويأتي كل ذلك استشعارا من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده- حفظهما الله- لترسيخ مبدأ العدالة وحفظ حقوق الإنسان وتعزيز النزاهة.

كلمات سمو ولي العهد، والعمق الذي حملته، والوصف الدقيق للمشاريع الأربعة التي يجري إعدادها (مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات) تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هذه المشاريع سوف تشكل إضافة كبيرة للمنظومة القانونية، لا سيما بعد تأكيده أن الهدف الرئيس منها هو معالجة التباين في الأحكام، وعدم وضوح القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات. ويعلم كل من له صلة بالمجال القانوني أن ذلك الوضع كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى إطالة أمد التقاضي الذي يمكن أن يستتبعه ضياع أو تأخير للحقوق، إضافة إلى عدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم، ومن ثم تحدث ضبابية في جوانب الشفافية والنزاهة.

ومع التقدير التام للمحاولات السابقة التي تمت لمعالجة ذلك القصور، والجهد الذي بذل في إنشاء وإنجاز (مشروع مدونة الأحكام القضائية)، التي هدفت لإيجاد نصوص قانونية واضحة وعقوبات محددة لتقليل اجتهاد القضاة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لمقابلة الوضع الراهن واستكمال احتياجات المجتمع وتطلعاته، لا سيما في هذا العصر الذي تداخلت فيه المصالح، واكتسبت المعاملات التجارية الدولية المزيد من التعقيدات، لذلك كان لا بد من إيجاد أنظمة عصرية تستصحب معها أحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية، لا سيما بعد انضمام المملكة للعديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

ولا يخفى على أحد مدى الترابط الكبير بين كفاءة المنظومات القانونية والعدلية في أي دولة وقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية، من خلال التصنيف الذي تناله، بناء على معايير محددة تتولى جهات دولية مراقبتها وضمان وجودها. لذلك فإن هذه المساعي تأتي داعمة للجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة لترقية الاقتصاد عبر استحداث مشاريع نوعية وغير مسبوقة وانخراط المملكة في الاقتصاد العالمي، وفق ما نادت به رؤية 2030، وهو ما انعكس على انضمامها لمجموعة العشرين التي تضم أكبر 20 دولة في العالم من حيث الاقتصاد والتأثير العالمي، ليس مجرد انضمامها فحسب، بل إن المملكة باتت تتبوأ مكانة متميزة داخل دول المجموعة نفسها.

كذلك من الأهمية بمكان الإشارة إلى الآلية التي اتبعتها المملكة في إقرار هذه المشاريع القانونية الأربع، حيث لم تصدر في شكل قرارات، بل استكملت كافة الخطوات التي يقتضيها ترسيخ مبدأ دولة القانون، حيث سيتم إعداد المشاريع، ومن ثم رفعها إلى مجلس الوزراء للنظر فيها ودراستها ومراجعتها وفق الأصول التشريعية، ومن ثم تحال إلى مجلس الشورى لإجازتها وفقا لنظامه، فأي مؤسسية بعد ذلك، وأي حاكمية أكبر من هذه؟

ولا ينبغي إغفال أن المملكة عندما تقرر السير في طريق تعزيز منظومتها القضائية وتحديثها واستكمال تشريعاتها، فإنها تفعل ذلك لحاجة مجتمعية خاصة بها، دون ارتباط بأي مؤثرات خارجية، ولا أدل على ذلك من الاهتمام الكبير الذي تبديه لجانب الأحوال الشخصية، التي لم تخل تعديلات قضائية من الإشارة إليها، وهو ما أكد عليه سمو ولي العهد في المشاريع الأربع التي يجري العمل فيها حاليا.

واتجاه المملكة نحو تحديث منظومتها القانونية يحسب لها وليس عليها، فالتحديث لا يعني أن هناك أخطاء مؤثرة، وليس بالضرورة أن يكون مرتبطا بالخارج، بل يشير إلى الرغبة في التناغم مع معطيات العصر ومتغيراته، وأي نظام لا يراجع مسيرته ويجدد أدواته ويطور آلياته هو نظام مفلس متكلس أقرب إلى الموت، لأن عناصره توقفت عن التفكير وانتفت لديها الرغبة في التطور.

وقد شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية، في هذا العصر الزاهر، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسنده ولي عهده الأمير محمد بن سلمان- حفظهما الله- اهتماما كبيرا وغير مسبوق بترقية واستكمال التشريعات القضائية، جرى التأكيد عليه في رؤية 2030، بعد أن اتضحت الحاجة إلى مسايرة المجتمع الدولي، وضرورة مواكبة المتغيرات التي أفرزها توقيع المملكة على العديد من المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية، بما لا يتعارض مع مقاصد الشرع الحنيف.

واستبقت وزارة العدل تلك الثورة التشريعية الكبرى بتأهيل وزيادة قدرات الكادر البشري من القضاة والعاملين في الحقل القضائي، إدراكا لحقيقة أن هذا العنصر هو رأس الرمح في أي عملية تطوير، وأنه لا فرصة لنجاح أي جهد إذا لم يكن ذلك الكادر مؤهلا لقيادة التغيير نحو أهدافه المنشودة. فتم إنشاء مركز التدريب العدلي لرفع كفاءة القضاة، مع إقرار آلية واضحة ومستمرة للمراجعة والتقييم، تتضمن بيانات إحصائية، ومعلومات وافية، تتيح القدرة على قياس التقدم الذي تم إحرازه، ومعرفة ما يجب تعزيزه والعمل على ترسيخه.

ويبقى في الآخر الإشارة إلى حقيقة مؤكدة، هي أن المجتمع السعودي سوف يجني قريبا ثمار التوجه الرشيد الرامي إلى تعزيز الحقوق وضمان العدالة، بقوانين واضحة تسري على الجميع، واهتمام الدولة بهذا الجانب يؤكد من جديد سعي القيادة الحكيمة إلى ترسيخ المؤسسية ودولة القانون التي تحمي حقوق كافة الأطراف، وتجعل بلادنا بيئة جاذبة للاستثمار الأجنبي بأكثر مما هي عليه في الوقت الحالي.