المتتبع للتاريخ الحضاري والقفزات الاقتصادية التي شهدها التاريخ الإنساني يجد أن هناك ثورات صناعية ثلاث سابقة، ونحن اليوم على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة، ومع كل قفزة نجد أن هناك عوامل أساسية مشتركة مسؤولة عن هذا التغير الجوهري الذي يفصل بينها، ألا وهي التغير في وسائل المواصلات والاتصالات ومصادر الطاقة التي يعتمد عليها في إحداث هذه النقلة النوعية بين الثورات المختلفة، فمثلا الثورة الصناعية الأولى انتقلت بنا من الاقتصاد الزراعي القائم على جني المحاصيل ورعي الماشية، مرورا بالصناعات البدائية التي ولدت بالصين ومصر القديمة وحضارة ما بين النهرين، ثم جاءت الثورة الصناعية الأولى التي بدأت في بريطانيا خلال القرن السابع عشر، والتي كانت تعتمد على الفحم الحجري كمصدر أساسي للطاقة، وعلى الآلة البخارية بالسفن والقطارات، وعلى البريد الورقي في المراسلات، والتي أصبحت من أهم وسائل التواصل بين الناس، وبعد ذلك شهدت الإنسانية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر بداية الثورة الصناعية الثانية، حيث انتقل الإنتاج الصناعي إلى استخدام الطاقة الكهربائية المتولدة من حرق النفط بديلا عن الفحم الحجري، وانتقلنا للبرقيات وخطوط الهواتف الأرضية كوسيلة اتصالات بين الأمم، فيما اعتمدت وسائل جديدة للمواصلات تعتمد على تقنية غرفة الاحتراق الداخلي للنفط والغاز بدلا من الألة البخارية، وبعد العقد السابع بالقرن العشرين شهدنا الثورة الصناعية الثالثة، حيث دخلت الطاقة النووية على الخط مع الوقود الأحفوري، وتم اختراع الحاسوب وتم نقل أول رسالة عن طريق الإنترنت، وشهدنا دخول الحواسيب في معظم مناحي الحياة واعتماد التصنيع والاتصالات والتعليم والصحة على هذه الحواسيب، وقبل دخولنا الألفية الثانية أصبح التواصل عبر الإنترنت هو وسيلة التواصل بين الناس من خلال البريد الإلكتروني، وفي منتصف العقد الثاني بعد الألفية الثانية بدأت تتشكل ملامح الثورة الصناعية الرابعة، حيث بدأت تتغير وسائل المواصلات من المواصلات التقليدية، وشهدنا وسائل مواصلات كهربائية ذكية وذاتية القيادة ولا تحرق الوقود الأحفوري، ونشهد حاليا هذا التحول التدريجي نحو استخدام الطاقة المتجددة الخالية من الانبعاثات كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها، كبديل للطاقة المتولدة من حرق الوقود الأحفوري أو التفاعلات النووية.

كان هذا التحول نحو الثورة الصناعية الرابعة مرصود من قبل قيادتنا الرشيدة، وتم بناء رؤية المملكة 2030 على أساس الاستفادة من هذا التحول وركب أمواج الثورة الصناعية الرابعة من بدايتها وجعل المملكة العربية السعودية في مقدمة الركب وبالمقاعد الأمامية، بدلا من مقاومتها والتأخر عن قطار التغيير أو الجلوس بالمقاعد الخلفية بين الأمم، وكان للمشاريع التي أسست لها حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله، في مدينة نيوم، والتي تعتبر نواة للثورة الصناعية الرابعة، حيث ستعتمد على صناعة مصادر الطاقة المتجددة كالألواح الشمسية وتوربينات طاقة الرياح وغيرها، وكذلك جعل السعودية أحد أبرز منتجي الروبوتات الذكية وأكبر مصدر للطاقة المتولدة من المصادر المتجددة.

ومع إعلان سمو ولي العهد -حفظه الله- مؤخرا عن مشاريع المدن الخضراء -كمشروع ذا لاين ومشروع البحر الأحمر- التي تعتمد على الطاقة المتجددة الخالية من الانبعاثات الكربونية، أصبحت السعودية فعليا في قلب الثورة الصناعية الرابعة، حيث ستعتمد تلك المشاريع العملاقة على الطاقة المتجددة بشكل كلي، وحتى تكمل السعودية بقية حلقات الثورة الرابعة لا بد لها من الاستثمار في صناعة البطاريات العملاقة والمساهمة بقوة في تطوير وتملك التقنيات الخاصة بالبطاريات المتخصصة من الأجيال المستقبلية، والتي تعتبر بحق عماد وقلب صناعة الطاقة المتجددة، فهي التي تقوم بمهمة تخزين الطاقة المتولدة من مصادرها المتجددة كالخلايا الشمسية ومراوح توليد الطاقة من الرياح وخلايا الوقود وغيرها، وبالتالي تمكننا من خزن ونقل وتصدير تلك الطاقة المتولدة لدول العالم المتعطشة للطاقة النظيفة الخالية من انبعاثات الكربون.

إن صناعة البطاريات الخاصة بخزن ونقل وتصدير الطاقة المتجددة تعتبر في مهدها حاليا على مستوى العالم، وتتسابق الدول المتقدمة للدخول بها بتخصيص مليارات الدولارات نظرا لأهميتها الإستراتيجية، والسعودية مؤهلة للنجاح أكثر من غيرها بحكم توفر معظم المواد الأولية اللازمة لصناعة البطاريات كالمواد الخام من البتروكيماويات، وكذلك قربها الجغرافي من بعض مصادرها الأخرى المهمة كخام معدن الليثيوم، وتشهد صناعة البطاريات مؤخرا تطورا سريعا ومذهلا مدعوما بأنشطة البحث والتطوير في تقنياتها وتجربة مواد جديدة تدخل في صناعتها، لزيادة حجم التخزين وسرعة الشحن وإعادة الشحن، وكذلك تقليل الوزن وإطالة العمر الافتراضي مع تقليل التكلفة وتوفير خاصية سهولة النقل والحركة لتلك البطاريات، ويعتبر الاستثمار في مجال هذه البطاريات المتطورة قرار إستراتيجي للسعودية بالمقام الأول، حيث إن توطين تصنيع هذه البطاريات محليا له قيمة مضافة كبرى على الاقتصاد الوطني وتحقق أهداف الرؤية المباركة 2030، وذلك من خلال توليد آلاف الفرص الوظيفية الجديدة ذات الدخل العالي والمتوسط، وتنمية المساهمة في المحتوى المحلي في صناعة الطاقة المتجددة، وسوف تضمن السعودية بمشيئة الله إمكانية تصدر الطاقة المتجددة بواسطة تلك البطاريات العملاقة المصنعة محليا والمشحونة بالطاقة النظيفة مستقبلا بأقل تكلفة ممكنة، وذلك جنبا إلى جنب مع براميل النفط الخام وستصبح مصدر دخل للدولة مثل مشتقات البترول والبتروكيماويات حاليا، علما بأنه يمكن تصدير تلك البطاريات كمنتج نهائي لكل دول العالم، سواء أكانت مشحونة بالطاقة للدول التي تعاني من فقر بمصادر الطاقة المتجددة، أو تصديرها كبطاريات فارغة كمنتج صناعي نهائي بدلا من استيرادها مستقبلا.

ولن تقتصر صناعة البطاريات المتطورة محليا على البطاريات العملاقة لتصدير الطاقة النظيفة بل تشمل أيضا صناعة البطاريات الدقيقة للأجهزة الصغيرة المحمولة، والبطاريات المتخصصة التي تزود الروبوتات والسيارات الكهربائية والدرونات والباصات والقطارات والطائرات والسفن والمراكب بالطاقة الكهربائية، سواء بالقطاع المدني أو العسكري.