للأسف تجددت أزمة كورونا وتزايدت الأرقام خلال الأيام القليلة الماضية، وسط إجراءات احترازية اتخذت في سبيل تسطيح المنحنى وإعادة الأرقام إلى نمط قليل من المصابين. غير أن الملفت أن الناصحين عاودوا نهجهم السلوكي ذاته إبان الفترة الأولى، وهو أمر محمود وإيجابي في حال كان الناصح أهلا للنصيحة، أو بدأ بنفسه والتزم بالإجراءات. أما أن يصور شخص عبر حساباته الشخصية نقطة ازدحام أو اكتظاظ وعدم التزام بالتعليمات وهو معهم! فالسؤال الذي يطرح نفسه حينها، ماذا عنك أنت أيها المصور؟ ألم تكن أنت جزءا من هذا الحدث أم استثنيت نفسك فقط لأنك تملك «منبرا»؟

الأمر أعمق من كونه التزاما من عدمه، فالظاهرة لها جذور نفسية تجعل الشخص يقدم النصيحة لأجل المشاركة فقط، وكأن هناك من يجبره على ذلك، أو بمعنى آخر كأنه يريد فقط إقناع ذاته وضميره أنه شارك وقدم النصيحة حتى وإن لم يطبقها.

جونا برجر، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا، يشرح ما يدور في أدمغتنا من سلوك داخلي يسمى «المطابقة الاجتماعية»، حيث نتعلّم في سن مبكرة أن نتتبع خطى مجموعتنا ونشعر بالحاجة للانضمام إليها حماية لنا من الاستبعاد، ولأن هذا يجعلنا نبدو اجتماعيين ويعطينا شعورا بالراحة. كما تدفعنا الرغبة في التشابه مع المجموعة للتصرف وفقاً لنظرية المطابقة، رغم تأثيرها لا شعوريا على تفكيرنا. فمن يشاهد حجم النصائح الصحية والطبية من عامة الناس في شبكات التواصل الاجتماعي يستغرب كيف لهذه الحالات أن ترتفع طالما أن الجميع ملتزم ومتقيد بل وينصح.


كذلك الحال داخل الكيانات ذاتها المطبقة للمعاير الاحترازية، حين تجد سلسلة من التعليمات عند مدخل المنشاة، إلا أن العاملين والقائمين عليها قد لا يطبقون أي إجراءات احترازية!

النصيحة إذا كانت صادرة من أشخاص لا يعملون بها، فإن ارتدادها يكون عكسيا وسلبياً، فتتشكل قناعة لدى المتلقي بأن تلك النصائح لا تعدو عن كونها كلاما للاستهلاك، وكأنها واجب يحتم على الجميع فعله، كالمشاركة في هاشتاق أو التفاعل بمبادرة معينة دون الوقوف أمام جزئية تنفيذ النصيحة من عدمها.

الأمر لا يتطلب نجومية مصطنعة في هذه الفترة، ولا الحدث يستوعب مشاهد بطولية وهمية، وعلينا أن نتعلم من تجربتنا الأولى في كل أبعادها. فالعزف على وتر نقد المجتمع لعدم التزامهم من أجل وهج التفاعل والنجومية لن يغير من الأمر شيئا ولن يعالج الإشكالية. وقد نشهد في الفترة القادمة من مشاهير أو إعلاميين حدة أو مبالغة في نصحهم بغية الانتشار واستثمار الحدث لصالحهم.

من يتتبع واقع تلك النصائح والرسائل التوعوية، يجد أنها تذهب باتجاه معاتبة المواطن على عدم تقيده بالإجراءات وكأنه هو المتسبب الأول في تضخم العدد. غير أن عددا من الجهات وجراء تهاونها في تطبيق المعايير، قد تكون هي الأخرى سببا في ارتفاع الحالات. وما أن ارتفعت الأعداد حتى تبرأت من ذلك وألقت اللوم على المواطن.

وعي بعض المواطنين سبق عددا من الجهات في الالتزام بالمعايير، بالإضافة إلى أن المنطق يقول إن المواطن بكل تأكيد لا يرغب بالعودة للحظر، فالعودة له ستلقي بظلالها عليه وعلى الجوانب كافة. فبعيدا عن الاعتبارات النفسية، كثير منهم ذوو مصالح ونشاط تجاري، وهذا سينعكس عليه سلبا في حال تطبيق الحظر.

الموقف لا يحتمل رمي كرة النار بين الأطراف والبحث عن المتسبب في تزايد الأعداد. فالأهم الآن الالتزام بالإجراءات وإيجاد سبل حل للأزمة، دون ممارسة وصاية، أو تحميل الأزمة لطرف دون آخر وأن تبدأ بنفسك.

يقول أبو الأسود الدؤلي:

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم