دائمًا ما أتذكر ويخطر ببالي تصور المسائل العلمية التي تمضي خلال الدرس المعرفي والعلمي، فتبقى قابعة في الأذهان، ما دامت العقول باقيةً لم تضمحل أو تضعف قواها، وأخص بالذكر تلك المسائل التي تتجاذبها الأدلة والبراهين، ويقع التاريخ منها موقعًا عميقًا وأساسيًا في توضيح الرؤية، وبيان المراحل الحقيقية لتلك المسائل، وإن هذه المسائل مع مرور الزمن تخرج تارةً وتخبو تارةً أخرى، وذلك على أساس أن الحركة العلمية ودورها في الوسط العلمي وقوتها المعرفية والبحثية تتغير وتتطور مع مرور الزمن وتغير الظروف التي كانت قد أحاطت بتلك المسائل العلمية وبالمعرفة الإنسانية عمومًا.

فكلما كان الوسط العلمي يحمل هم تلك المعرفة العلمية، ويبذل لتحصيلها كل الأدوات فإن الحركة العلمية سوف يتضح تأثيرها وأثرها في الحياة المعرفية والثقافية والاجتماعية، ولا شك أنه ومن خلال تلك الأوساط المعرفية يكون لتلك المسائل العلمية ظهور تدور معه وجودًا وعدمًا، وفي ظني أن معرفة أطوار المسائل وركائز مضامينها، وما يُحيطها من ظروف، وما يكون من وقوعها الزمني في تأريخها تجعل مدارك العقول متسعة للفهم والاستيعاب لكل اختلافات تكون واقعة في العلوم المعرفية.

وكلما كان ذلك الوسط بعيدًا عن تحصيل المعرفة ويجهل أدواتها فإن التأثير والأثر لن يكون موجودًا إلا بشكل سطحي، ومن ثَمَ تتضخم العقول السطحية (shallow minded) حتى تَمْـتَـلك تلك العقلية السطحية الحياةَ المجتمعية، فلا ترى إلا قشور الثقافة ومسحةً ضئيلة من الثقافة المعرفية؛ لأن هناك فرقًا ظاهرًا بين المعرفة الحقيقية وبين الثقافة ذات المعارف المعلبة التي يتم تحصيلها بالسماع بواسطةٍ من وسائل المعرفة المعاصرة ذات السرعة الضوئية بلا عمق ولا تأصيل علمي رصين، فتتعطل أطوار المعرفة وتتراكم على ذلك التعطل السطحيات المتعالمة، فلا ترى إلا تخبطًا معرفيًا وشرودًا عقليًا عن أسس وأدوات وآليات العلم والمعرفة؛ فيصبح المثقف صاحب المعرفة هو الطارئ على عوالم ومجتمعات السطحية.

فلا تكاد تجد صاحب المعرفة والعلوم الراسخة إلا نادرًا حتى يُصبح صاحب المعرفة تنطبق عليه القاعدة الفقهية بأن «النادر لا حكم له»؛ أي أنه ليس موجودًا في الواقع المعاصر؛ لأن معرفته وثقافته غير مرحب بها في عوالم السطحيات والوجبات السريعة، وإن إدراك أن هذه السطحية تُمثل إشكالية عميقة تصد عن المعرفة الحقيقية هو أمر في غاية التعقيد لمن يتصف بالسطحية؛ فتصبح الإشكاليات تفرز إشكاليات فتقع تلك العقول السطحية في الدور الفلسفي، أو كما يُقال عند علماء الأصول والفقه عند النظر لواقعة من الوقائع وتنزيل حكم كلي عليها إذا كانت الواقعة ذات تعقيد وإبهام، فإن ذلك التنزيل يُعتبر من المشكل في الفهم، فلا يستقيم التنزيل على تلك الواقعة، وهناك مصطلح إنجليزي يُطلق على مثل تلك الحالات (problematic)؛ أي أنه مشكل ويصعب حله أو فهمه بسبب ما يعتوره من التعقيد، وبما يحتويه من متناقضات كثيرة.

إن مثل تلك الإشكاليات الفكرية التي تعرض للإنسان لا يمكن حلها إلا بامتلاك المعرفة وأدواتها، فإذا ما فقد الإنسان تلك الأدوات أو أنه لم يكن يمتلكها أصلاً فأنى له أن يتحدث في أمور علمية أو ثقافية أو فكرية أو اجتماعية، وهو لا يمتلك أسباب ووسائل المعرفة الموصلة لأصل تلك الإشكاليات، وهذه الإشكالية هي في عدم امتلاك المعارف وأدواتها ووسائلها تكون بارزة لدى اللامعرفي واللامثقف ممن هو ظاهر العيان في شواهد العصر في كثير من وسائل التواصل الجديدة.

ومع أنها إشكالية حقيقية وواضحة إلا أن مواجهتها قد تكون ميسرة إذا ما تحققت لأهل المعرفة والثقافة الإستراتيجياتُ لردم الهوة في توسيع المعارف والثقافة لدى أفراد المجتمع، والاهتمام بالقاعدة الشبابية في تأصيل تلك المعارف وترسيخها لديهم، إلا أن الإشكالية تتعمق وتتعقد إذا ما أصبحت المعرفة مفقودة لدى الأكاديميين وطلاب المعرفة الجامعية، ومن يتولى المنابر القيادية في المؤسسات، وهذا ما يُعرف بغياب الوعي المعرفي، وهذا الغياب المعرفي للوعي كانت تتجاذبه فلسفتان معروفتان لدى أي طالب علم أو يُفترض أنهما معروفتان لدى طلاب العلم والمعرفة، وتلك الفلسفتان هما الفلسفة المادية والفلسفة المثالية، حيث إن الفلسفة المادية تفترض أنه ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم..

أما الفلسفة المثالية فترى أن الوعي هو ما يصنع البيئة المثقفة، ومن اختلاف هاتين الفلسفتين نشأ مصطلح صناعة الوعي الذي نحته المؤلف وواضع النظريات «هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر»، وهو يحدد الآليات التي يتم من خلالها استنساخ العقل البشري كمنتج اجتماعي، ومن أهم هذه الآليات هي مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام، وإن غياب المعرفة أو حلول السطحية في موقع المعرفة بحجة التبسيط المعرفي للعلم يجعل المعرفة تقبع في أدنى درجاتها وفي أسوأ مراحلها، وذلك لأنه يُفقد المعرفة جودتها وقيمتها، فلا يكاد الإنسان يعرف الفرق بين صاحب المعرفة وغيره، مما يجعل الأمور مختلطة في كثير من العلوم والتخصصات، فترى كل أحد يُنصب نفسه عارفًا وعالمًا ومحللًا جهبذًا، فتتبناه تلك المؤسسات التي تقود الفكر والمجتمع، فلا ترى تقدمًا ولا تطورًا ولا تنميةً.. وتظل المجتمعات قابعة في ظل السطحية العلمية، لا تستطيع أن تخرج من التبعية العلمية والثقافية.

لذلك هناك أزمة حقيقية في عمق مجتمعاتنا الخليجية والعربية يتمحور عمقها في جعل الموضوعات والأطروحات المعرفية والعلمية والثقافية موغِلة في التسطيح والشخصنة، مما يجعل أولئك الأشخاص المتصفين بالسطحية والشخصنة يتضخمون، استنادًا إلى معايير التسطيح العلمي والمعرفي، مع وضوح البرهان على قصورهم العلمي والمعرفي ومع التجاهل الحقيقي للقيم والمبادئ للمعرفة العلمية، فيتكاثر في المحيط المجتمعي المتعالمون؛ وهي مفرد متعالم، والمتعالم بتعريف سهل وميسر؛ هو مدعي المعرفة ومتسلق للمسائل والخلافات العلمية دون أن يكون لديه أدني سبل وقواعد أصول ومبادئ وآليات العلم المعرفية، ولهذا اشتكى عالم من الفقهاء عندما قل العلم وضعُفت الهمم بقوله: «وحيث قلت الرواية وفُقدت الدراية، وصعب الوصول إلى المسائل الشرعية، وركب أكثر الناس متن غيداء في حوادث الرعية، فوجب تقريب الوصول إلى أجوبة النوازل»، و«متن غيداء» على حذف المضاف؛ وهو ناقة وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي ومتن ناقة غيداء؛ أي عمياء تسير بلا رؤية وبصيرة تقودها إلى الجادة الصحيحة، وهذا يكاد ينطبق على الثقافة السطحية وأصحاب الوجبات العلمية السريعة التي ليس لها خطام يقودها إلى الجادة الآمنة.