حينما نشاهد شعار المرسيديس بنز يخطر في أذهاننا على الفور دولة ألمانيا، وحينما نطلب البيتزا والباستا لا بد أن يمر على تفكيرنا إيطاليا، تماما كما نتذكر أستراليا مع حيوان الكانغر وفرنسا مع برج إيفيل، والاختراع والنظام والتنظيم مع اليابان، والبرود والصرامة والقسوة مع بريطانيا؛ هذه الصور الذهنية التي ترتبط بمختلف الأمم والحضارات والشعوب حول العالم والتي لم تنطبع في الأذهان بصورة جبرية ولا بالإكراه أو القوة هي ما يعرف بالقوى الناعمة للدول والشعوب.

رؤية 2030 هي قوة المملكة العربية السعودية الحالية، وكل ما يرتبط بها من حراك تنموي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحوكمة متقدمة هي الواجهة التي تُعرف بها السعودية حول العالم في الوقت الراهن. وهذه الحقيقة ليست مجرد رأي بقدر ما هي معلومة أعلنت في مؤشر القمة العالمية للقوة الناعمة 2021 الذي عقد الأسبوع الماضي، ونالت المملكة العربية السعودية فيه المركز 24 متقدمة عن العام الماضي الذي كانت تحتل فيه المركز 26، وذلك حسب استطلاع للرأي شمل أكثر من 77 ألف شخص في 105 دول.

على الرغم من تعرض العالم خلال العام الماضي لجائحة كورنا التي عزلت الدول وأثرت على اقتصادها وأنظمتها الصحية تأثيرا ملحوظا وممتدا حتى اللحظة، إلا أن مؤشر السعودية ارتفع مرتبتين لعدة أسباب من أهمها: الإجراءات الصارمة التي اتبعتها المملكة في التعامل مع الجائحة وما صاحبها من رعاية صحية شاملة وغير مشروطة لجميع المواطنين والمقيمين المتأثرين بوباء كورونا، وهذا ما جعلها وجهة آمنة صحيا وإنسانيا. كما أن استضافة المملكة لقمة مجموعة العشرين G20 خلال العام الماضي رغم الإغلاق العالمي بسبب الوباء ونجاحها في إنجاز هذه المهمة التي تتم لأول مرة من دولة عربية، والتزامها بأجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة باقتدار كان أحد القوى الناعمة المهمة للمملكة، كانت من أهم عوامل ارتفاع مركز السعودية في ذلك المؤشر.

عند الحديث عن القوى الناعمة فلا يمكن تغافل التغيرات الثقافية الكبيرة داخل المملكة منذ بدء انطلاق رؤية 2030 وما صاحبها من إنشاء عدة هيئات تعنى بمختلف المجالات الثقافية التي تزخر بها السعودية، والتي تشكل تنوعا ثريا ونادرا يعطي واجهة رائدة ومشرقة عالميا. فضلا عن التحولات الاقتصادية الكبرى التي ارتبطت بعدة مشروعات تنموية ومبادرات مميزة كصندوق الاستثمارات العامة وما رافق هذه المشاريع العملاقة من تحول رقمي وتطور تكنولوجي مستمر.

وإن كنا سنستعرض أهم التحولات التي حدثت في المملكة في الفترة الأخيرة والمندرجة تحت رؤيتها 2030 والتي تعطي انطباعا إيجابيا حول المملكة من الدول الأخرى وترفع مؤشراتها في التقدم الناعم الفاعل عالميا فلن نغفل التغيرات التي شملت منظومة القوانين والأنظمة العدلية والجزاءات التي تساعد على وجود تشريعات وتنظيمات أمنية وقانونية للمستثمرين أفرادا أو مؤسسات محلية أو عالمية. هذه التغيرات والتعديلات في القوانين شملت -وما زال العمل عليها- نظم الأحوال المدنية خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وأطرافه الأضعف المرأة والطفل.

مع يقيننا بوجود هذه القوى الناعمة لدينا وقوتها وتأثيرها الكبير داخليا وخارجيا قد يتساءل البعض ما الجدوى من إظهار هذه الصورة المشرقة للمملكة للعالم الخارجي؟ وما دمنا نملك التأثير والأسباب التي تغير موقعنا على الخارطة العالمية فمن المعني بأن نحرص على تحسين صورتنا أمامه أو على الأقل إظهار وجهنا الحسن له؟ هذه الأسئلة مشروعة كمشروعية أهمية تأثير القوى الناعمة للدول على رفع مؤشراتها عالميا وتقدمها الاقتصادي والسيادي. ومع أهمية هذه الجوانب فإن ما تتعرض له المملكة من هجمات متعمدة لتشويه واقعها الاجتماعي أو الحقوقي، وانتهاكات أمنية مستمرة بزعامة إيران وبيد أذرعها من ميليشيات في دول الجوار مع صمت عالمي لهذه الانتهاكات وعدم اتخاذ إجراءات تحجم من أعمال إيران التخريبية في المنطقة، فإن التأكيد على مكانة المملكة وتقدمها وتسارع خطاها نحو الريادة العالمية والانفتاح الدولي في المجالات كافة، أمر مهم وينعكس إيجابا على فرص التنمية والاقتصاد المحلية وتحسين الصورة الذهنية للمملكة التي يستقبلها المتلقي الخارجي عبر وسائط وجهود محلية منصفة أفضل من أن تكون عبر وسائط وأشخاص لهم أجندتهم وأهدافهم الخاصة والمعادية.

السعودية اليوم وهي قبلة المسلمين والتي تملك موقعا إستراتيجيا في قلب العالم مكانا وثقلا سياسيا، السعودية الحلم في تغيراتها الجذرية وتطورها وازدهارها ورؤيتها، سعودية المشاريع الحالمة مثل ذا لاين وكورال بلوم، والمدن العالمية كنيوم والقدية، والوجهة السياحية العالمية القادمة صيفا وشتاء، سعودية التنوع الاجتماعي والثراء الثقافي والتماسك الوطني والقوة الإنسانية تستحق أن تُظهر كما يليق بها، وبما يعكس الجهود الحكومية المبذولة كل فيما يخصه ويعنيه ويعتني به، كما يظهر الواقع الاجتماعي والثقافي بما يحمله من تنوع وتآلف يظهر بين مواطنيها.

الآلية التي ينبغي أن تظهر بها هذه الصور للمملكة العربية السعودية لا شك أنها ستكون متنوعة وموزعة بين عدة جهات مهمة على رأسها وزارتا الثقافة والإعلام، ولكن حتى تتوحد الجهود نحو تسخير القوى الناعمة التي تملكها السعودية لصالحها، والعمل على إبرازها فأقترح أن تكون هناك هيئة خاصة بالقوة السعودية الناعمة يوكل لها مهام العمل على هذا الجانب ووضع مؤشرات لمختلف الجهات لتحقيقها ومتابعتها، واستقطاب كل ما من شأنه أن يظهر ما نعيشه ونلمسه من تقدم وما نرسمه من أهداف، حتى يصبح معنى القوة الناعمة سعوديا من تأثير في الرأي العالمي وجذب اقتصادي وسياحي وثقافي ومعرفي يتم بسلالة ومرونة دون إجبار وإكراه، واثق كخطى الوطن نحو العالمية، وحقيقي كالواقع القوي الذي نملكه.