الشاعر لا يعبر عن الحياة ولكنه يخلق حياة أخرى معادلة للحياة وأكثر منها صدقا وجمالا، ولكنه لا بد أن يخلق، إذ أن وقوفه عند التعبير عنها هو قصور في رؤيته، كما أن وقوفه عند التعبير عن نفسه هو عاطفية مرضية. وإذا كانت الطبيعة هي القطب الموضوعي للفن فإنها لا حياة لها بغير الشاعر أو الفنان، وإذا كان الفنان هو القطب الذاتي فإنه لا يستطيع أن يكتفي بالصرخات الذاتية السنتمنتالية، بل لا بد له من صور موضوعية لخلق عالمه وتجسيمه وبعث الحياة فيه. والواقع أن كلمة ذاتية في المقياس الفني تعني الفن المتخلف ولا تعني الفن الرديء، فهو متخلف بمعنى أن شاعره لم يستطع أن يصل في نضجه الفني إلى تجاوز مرحلة التكوين، حيث ينبعث الفن من الصورة الأولى إلى مرحلة التمكن، حيث تتكون له رؤية شاملة للكون، تتضح خيوطها من مراجعة عطائه الكامل. كما أن كلمة موضوعية قد تعني الفن الذي يقنع بالتعبير المباشر عن الحياة دون أن تتخلق الصور تخلقا شخصيا، فالذاتية والموضوعية بهذا المعنى إذن مظهران من مظاهر انفصام الشخصية الفنية، أو هما قطبان للتخلف الفني. والشاعر يبدأ حياته الشعرية عادة أقرب إلى الذاتية وإن كان في بيئتنا التي لا تكاد تفرق بين الشعر والخطابة قد يبدأ حياته أقرب إلى الموضوعية. فإني أذكر حين كنا طلابا في المرحلة الثانوية والجامعة أن كنا ناشئة الشعراء نتباين بين التعبير عن ذواتنا وبين التعبير عما يشغل المحافل في زماننا، فكان من يجيدون وزن الشعر منا يلقون مقطوعات ذاتية في الحب أو الشكوى أو يلقون مقطوعات في الأغراض السياسية أو الاجتماعية أو الاحتفالات المدرسية والجامعية، وأذكر أني حين جمعت أول مجموعة من شعري الباكر في كراس صغير في عام 1949 كان هذا الديوان محتويا على قصيدة واحدة في غرض اجتماعي، بينما كان باقيه نفثات ذاتية صارخة، وربما كانت علة ذلك الجنوح المسرف إلى الذاتية هو أنني ولدت بين صفحات كتب المنفلوطي وجبران خليل جبران فقد بكيت مع سيرانودي برجراك وماجدولين وأنا في العاشرة من عمري، وما زلت أذكر هيئتي بجلبابي وخفي وأنا أثوي في ركن صغير من فضاء مهمل وراء بيتنا بالزقازيق، التهم ما يلقنه سيرانودي برجراك لغريمه من بديع القول، ويتلوى كل عرق فيّ لآلام الشاعر وجسامة تضحيته ونبالتها، وقد ظل المنفلوطي معبودي حتى تعرفت إلى جبران خليل جبران في الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة، فبكيت مع سامي كرامة وعاشقها التعس، وحين أقول بكيت لا أتحدث بالمجاز بل أعني أنني أجهشت بالبكاء في وحدتي، وحملت من همهما ما ناءت به النفس. استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى وكان هو قائد رحلتي بشكل ما فقد قادني بادئا إلى قراءة كتاب ميخائيل نعيمة عنه، ولا أعرف في تاريخ فن السيرة العربية كتابا دافئا ويقظا كهذا الكتاب، وعن هذا السبيل دخلت في سن الـ15 إلى عالم غريب مفزع هو عالم نيتشه. حدثنا ميخائيل نعيمة عن تأثر جبران بنيتشه، وعلق الاسم بذهني حتى وجدت بالصدفة السعيدة ترجمة فليكس فارس لكتاب نيتشه الخارق «هكذا تكلم زارادشت». أي دوار يخلخل الروح عرفته بعد قراءة هذا الكتاب. كتب قليلة في تاريخ الإنسان تستطيع أن تترك في النفس أثرا مثل هذا الكتاب، وفلاسفة قليلون من بني البشر يستطيعون أن يؤثروا في الوجدان البشري كما يؤثر نيتشه، هؤلاء هم فلاسفة الروح الذين تصطبغ فلسفتهم بالشعر ويغمسون قلمهم في دماء القلب. وأستطرد هنا قليلا لأقول إن نيتشه ظل أثيرا إلى نفسي منذ ذلك الحين رغم طول تسكعي بعد ذلك في أروقة الفلاسفة. كنت أعرف ما يقال من أن نيتشه هو الأب الروحي للنازية، وكنت أشهد على الصفحة الأولى للترجمة العربية لكتاب هكذا تكلم زارادشت صورة المترجم فليكس فارس وقد قص شاربه قصة هتلرية، ولكني مع ذلك كنت أكذب الخبر كما تكذب شائعة مريبة عن صديق حميم، وما أشد سعادتي بعد سنوات طويلة حين وجدت ترجمة إنجليزية حديثة لكتاب هكذا تكلم زارادشت لا تلتزم اللغة الإنجيلية شأن الترجمات الأولى، ويحاول صاحبها في المقدمة أن يدفع عن نيتشه تهمة الأبوة الروحية للنازية والعنصرية تلك هي ترجمة هو لنجديل Hollingdale الصادرة عام 1961، وأنا أنقل هنا ترجمة تقريبية لبعض مقاطع المقدمة «إن الفهم المتحيز لينتشه ينبع من التناول غير المنهجي لكتاباته فقد وقع كثيرون من الرجال المختلفي الشخصيات تحت تأثيره مما لم يتيسر إلا لقليلين من الكتاب، ومن هؤلاء الرجال الشاعران الألمانيان الكبيران رلكه وجورج، والروائي الأعظم توماس مان، أما شو فقد فتن بأفكاره وكذلك يدين له بالكثير كل من ياسبرز وهيدجر وسارتر، أما في الموسيقى فقد تأثر به ماهلر وريتشارد سترواس ودلبوس الذي كان يعبده».

ومن جهة أخرى استعان النازيون ومبررو فكرهم بكثير من شذرات فكره، ولكن أحدا من ذوي المعرفة لم يصدق دعوى هؤلاء الفلاسفة أولاد السفاح أن نيتشه كان أباهم الفكري. ومع ذلك فإن فلسفة نيتشه قد عانت كثيرا من هذه السمعة السيئة كمبشرة بالنازية حتى أن عضوا في مجلس العموم البريطاني في مارس سنة 1935 هو السير هربرت صموئيل قال: إن هذه المدرسة الفكرية التي تنبع منها السياسة الألمانية من حيث الولع بالقوة والظفر عن طريقها والتسلط من أجل التسلط تنتمي إلى فلسفة نيتشه، والواقع أن هذه الدعوى السيئة لم تقم فجأة بل بدأت بمحاولة بعض المثقفين الألمانيين النازيين تأصيل أفكارهم، فإن أحد عملائهم الكبار هو الدكتور الفريد باوملر قد بدأ ذلك بادعائه أن ما نشر من كتابات نيتشه لا يعبر عن حقيقة آرائه التي يجب أن تلتمس فيما لم ينشر بعد منها، وكانت تلك الدعوى هي ستار الضباب الذي يسول بعد ذلك استخلاص فقرات منه دون أن ترد إلى سياقها، ثم توجيهها الوجهة التي تناسب هدف النازية. والواقع كذلك أنه رغم طول المدة بين وفاة نيتشه عام 1900 وقيام النازي إلا أن ذكراه كانت في تلك الفترة ضحية لتوجيه أخته إليزابيث فورستر نيتشه التي صورته في صورة توافق هواها، فكانت النتيجة أنه كان رغم الشهرة الواسعة غير خاضع لأي رؤية أكاديمية سليمة، بل إنها اجترأت على تلفيق بعض شذرات من رسائله وتعليقاته لتضمنها كتاب «إرادة القوة»، وتبرز هذا الكتاب كأنه كتابه الأم أو وصيته الأخيرة للإنسانية. وهكذا نجد أن كل حديث عن العنصرية عند نيتشه لم ينشب إلا بعد محاولة النازيين إلصاقه بهم. إن العناصر الثلاثة لفلسفة نيتشه هي الإنسان الأعلى أو السوبرمان والرجعة الأبدية وإرادة القوة. وهذه الأخيرة تجده يتخذ لها مثالين لا يتسمان بالعنصرية أو العنف لوجه العنف، وهما يوليوس قيصر وجوته، حيث تتحول عنهما إرادة القوة إلى قدرة على الخلق، وهما يبلغان أوج قدرتهما على الخلق في خلق نفسيهما بحيث يعلوان على غمار الناس. وفي هذين الرجلين يرى نيتشه صورة الجنس البشري حين تتحقق الإنسانية كاملة، ويتجاوز الإنسان الحبل الممدود بين القرد والسوبر مان فكأن نيتشه بذلك يجيب إجابة شريفة على عدمية عصره. وحين يستطيع الإنسان بعامة أن يصل إلى هذا المستوى لا بالصدفة العمياء بل بالتصميم والتدريب فإن الإنسان عندئذ سيكون قد وصل إلى استقلاله.