فرضت الصورة نفسها بكل قوة في العقدين الأخيرين، وتداخلت مع الفن المعاصر. وبات الفن يتوسل تقنيات جديدة ويحضن مفاهيم وأبعادا مبتكرة، كالبعد الافتراضي والمنحى التفاعلي ومفاهيم المباشرة والبث الآني. وعلى الرغم من الفرق بين الصورة الفنية والصورة المعدة للتداول الإعلامي، بات حضور الصورة وثقلها اليوم، يتمتع باستقلالية، له مناهجه الخاصة وأدوات اشتغاله، وهو ما قاربه عبدالعالي معزوز باحثا عبر كتابه «فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل»، سعيا منه لامتلاك أدوات تفكيك الصورة ونقد خباياها.

إبداع للمفاهيم

يمكن القول بثقة إن الكتاب يمثل إضافة للمكتبة العربية، استنادا لندرة هذه النوعية من المؤلفات في العالم العربي. يطرح الكتاب الأبعاد الفلسفية التحليلية للصورة والوسيط وصناعات الهيمنة، مستشهدا بعدد من الفلاسفة والفنانين (جيل دولوز، ميشيل فوكو، جاك دريدا).

وربما يضعنا عنوان الكتاب أمام فكرة، أنه إذا كانت الفلسفة تخاطب العقل من خلال اللغة، فإن الصورة تخاطب العقل عبر الرؤية، وصولا إلى أن لكل منهما أسلوبه للتعبير عن الفكرة ولصوغ المفهوم. كتب دولوز عن أن الفلسفة إبداع للمفاهيم، لكنه في الآن ذاته مقتنع أيضا بأن الصورة إبداع للمفهوم، وسواء تعلق الأمر بالفن من رسم وسينما وتصوير أم لا، فإن محاكاة المفهوم هي السمة المميزة لعمل الرسام والمصور ومخرج الأفلام.

الاستهلاك السلبي

يتكون الكتاب الذي يندرج ضمن مجال المرئي الذي تحكمه ثقافة العين أو ثقافة الصورة، ويسعى إلى تغطية مبحث فلسفة الفن من جهة، والصناعة الثقافية (ثقافة الاتصال)، عوضا عن المقدمة، من خمسة فصول وخاتمة، يعرض الفصل الأول قضايا وإشكالات الفن المعاصر، وتناول الفصل الثاني فلسفة الفن المعاصر، فيما كشف الفصل الثالث عن ثقافة الاتصال والصناعة الثقافية: نقد وتفكيك، وأشار الفصل الرابع إلى الصورة وأنظمتها ورهاناتها، ويفكك الفصل الخامس آليات الصناعات الثقافية. معزوز اعتمد في كتابه على المنهج الكيفي، ويلفت أنه تأمل بعمق التعميم المطلق لثقافة الاستهلاك، وانسياق الإنسان المعاصر إلى الاستهلاك السلبي والمفرط دون تريث أو فحص، أو حتى التساؤل عن الرسائل الخفية الكامنة وراء ما تقدمه لنا الصناعة الثقافية.

الطفرة الرقمية

أفرد معزوز قِسماً من الكتاب لفلسفة الفن محاولاً استقصاء الفن الصِباغي الغربي واقتفاء أهم الانقلابات والانعطافات التي عرفها في قواعد الرؤية. وخصص حيِّزاً لتحليل الأعمال الفنيَّة التي طبعت تاريخ الفن، وتناول أيضا ثنائيَّة المُقدس والمُدنس، معتبراً أن شيوع الثقافة البصريَّة لم يستثن مجتمعاً من المجتمعات ولا ثقافة من الثقافات، فالطفرة الرقميَّة اخترقت حتى الثقافات المُمْعِنَة في النزعة المحافظة وحتى الثقافات المُغْرِقة في التقليد وفي التَّديُّن. أكثر من ذلك ما تحظى به شبكات التواصل الاجتماعي من استعمال من طرف حتى التنظيمات الإرهابية في تجنيد المقاتلين وما تخضعهم إليه من غسيل الأدمغة.

النظرية الجمالية

يرجع الكاتب أسباب طرحه هذا الكتاب إلى مدرسة فرانكفورت قائلا: هي منطلقي في البحث بخصوص وسائل الاتصال والصناعة الثقافية، لماذا؟ بحكم اهتمامي بأدورنو الذي يُعتبر فيلسوف المدرسة من جهة، وبحكم اهتمامي الأصلي بموضوع الثقافة البصرية، وبالفنون البصرية بدءا من التشكيل إلى السينما والفرجة والفوتوغرافيا وغيرها.

ويوضح أكثر: كانت مدرسة فرانكفورت ولا تزال مُلهمة لكثير من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين. ويعود إليها السبق في تشخيص أزمات العالم المعاصر. كما يعود إليها الفضل في نحت مفاهيم جديدة، مثل الصناعة الثقافية، وصنمية السلعة، والتشيُّؤ الشامل، والنمذجة، والتنميط وغيرها من المفاهيم. واستلهمت مفهوم الفن من النظرية الجمالية عند أدورنو، ونهلت منها مفهوم الشكل، والنفي المحدد، ومضمون الحقيقة، ولعبة المظهر. ولم أجد أكثر نقدا لمنتجات الصناعة الثقافية من مدرسة فرانكفورت إلى حد أنها سُميت أيضا بـ«النظرية النقدية».

أداة تعبيرية

يقترب الكتاب من الإشكال العميق في منزلة الصورة لدى كل من الثقافتين الغربية والعربية، حيث تُقاس جمالية الصورة بتعبيريَّتها، وبمدى إحداثها لارتجاج في إدراك الرائي، أو في المتلقي إلى حد تغيير نظرته للعالم. فيما يبقى العالم العربي مفتقرا إلى الثقافة البصرية المطلوبة. ولم تصل مجتمعاته إلى وعي نقدي بوسائط الاتصال، وإدراك مفاهيم الجماليات البصرية المأمولة. فالصورة باتت من مفاتيح العالم المعاصر باعتبارها وسيطا إعلاميا في مجال التواصل، وأداة تعبيرية في ميدان الفن. كما أن للصورة دورا إشهاريا ودعائيا.

ملك مشاع

يضعنا الكتاب أمام مواجهة الحقيقة المؤلمة لواقع المجتمعات العربية، مشيرا إلى أن غالبية ذهنية أفرادها تبدو غير قادرة على التمييز بين أنماط الصورة، ومَدّهم بالأدوات الفكرية والمنهجية لفك رموز الصورة وطلاسمها الظاهرة والخفية. فالصورة الإعلامية هي الأخبار الإشهارية للترويج، والدعائية لتعبئة الجماهير وتجييشها. وأخيرا الصورة الفنية للاستمتاع والإعجاب. إنتاج الصور يخضع لإستراتيجيات، وتكمنُ وراءه رهانات اقتصادية ومالية كبرى. لأن الصورة مركبة وتختزل لوحدِها عالماً قائِماً بذاته، تتطلب مقاربتها من زوايا متعددة بوصفها وسيطا وسلعة ثقافية وتحفة فنية. فالصناعة الثقافية تنطلق من أن الثقافة لم تعد ثقافة عليا في يد نخبة ممتازة وإنما صارت ملكاً مُشاعاً بين الجماهير والحشود في مجتمع المعرفة.

غايات بعيدة

يثير الكتاب التفكير ويطرح أسئلة تتماس مع الواقع المعاش، حول كيف صارت الثقافة صناعة قائمة بذاتها وإنتاجا آليا للصور والأفلام والأسطوانات، ويسهم في نشرها وتسويقها تجمعات تجارية وصناعية كبرى مختصة في الترفيه والتسلية وأوقات الفراغ.

موضحا أن الصناعة الثقافية تتميز بكونها تعمل وفق آليات إنتاج السلع لكنها سلع ثقافية تتجه للعقل لبناء تمثلات وأفكار معينة لأغراض محددة، بحيث صانع الصورة يخدم إيديولوجيا معينة لصالح غايات بعيدة أو قريبة المدى والفعالية. الأسطوانة والفيلم السينمائي والمسلسل التلفزيوني والبرامج التلفزيونية الترفيهية وعروض الفرجة كلها سلع ثقافية. وهذا ما يدعونا إلى التساؤل حول مستقبل النزعة الاستهلاكية المتنامية بشكل أعمى في مختلف المجتمعات وبين مختلف أنواع البشر.

مدرسة فرانكفورت

استعان الكاتب في طرح أفكاره بالجهاز النظري والمفهومي لمدرسة فرانكفورت: مفهوم الصناعة الثقافية وصنمية السلعة والتشيُّؤ الشامل والرأسمالية المتطورة وغيرها من المفاهيم. مع تحول هام في تداول الصورة، بحيث تحول احتكار الدولة للصورة إلى احتكار عالمي لمصالح وقوى ضغط منحت للفرد فرصة الاستهلاك اللامتناهي واللامشروط للصورة والمعلومة والاتصال، وهو تحول عميق يشهد عليه الطلاق البائِن بين السلطة والسياسة، ففي الوقت الذي تحولت فيه السلطة إلى قوة عالمية بقيت السياسة حبيسة الحدود السيادية للدولة - الأمة بتعبير زيغمونت باومان.

عبدالعالي معزوز

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بنمسيك – جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء

متخصص في ثقافة الصورة وتفكيك الصناعة الثقافية في العالم المعاصر

مؤلفات

«جماليات الحداثة: أدورنو ومدرسة فرانكفورت»

«الإنترنت والاستلاب التقاني»

«هشام شرابي: ونقد النظام الأبوي في المجتمع العربي»