في مقالنا السابق تكلمنا عن كون من يؤيدون الثورات يلجؤون إلى محاولة استنساخ التاريخ الفرنسي، الذي كان بين ثورته وقيام الديمقراطية في فرنسا أكثر من ثمانين عاما حمراء، فرأوا أن وقوع البلاد الإسلامية في عقود طويلة من الدمار وسفك الدماء تكون خاتمتها دولة على غرار فرنسا يعد ثمنا زهيدا في مقابل الحرية التي ينشدونها، وهم بهذا القول يتوهمون تناسخ التاريخ، أي أن التجربة التاريخية تنتقل بجميع مقدماتها وتفاصيلها ونتائجها من أمة إلى أمة، ولا يشك عاقل أن ذلك هوس، ولولا أني سمعت ذلك في مجالسهم ومن أفواههم وقرأته من كتاباتهم لما صدَّقتُ أن عاقلًا يقول به، ومع قولهم هذا، فإنهم لم يقرؤوا التاريخ حقًا، وإلا لعرفوا أن الديمقراطية في أوروبا وليس في فرنسا وحدها ليست ثمرةً للثورات، فالأمد بعيد بين الثورة وتأسيس الديمقراطية، بحيث يبعد أن يكون أحدهما سببًا للآخر، وإذا دخلنا في التفاصيل سنجد بقراءة يسيرة أن الديمقراطية في فرنسا أسستها الدول الملكية المحاربة لفرنسا حينما تمت هزيمة نابليون الثالث، وكان ذلك بقصد جعل فرنسا منقادة لهم، عاجزة عن اتخاذ قرار الحرب ضدهم، وإنما هذا نموذج لقصور قراءتهم التاريخ الذي يريدون استنساخه على حساب الأمة وما يلحق به من مضار. كما أن هذه المكاسب الحقوقية التي يَصْبُون إليها عن طريق الثورات أسوة بتلك الشعوب لم يكن نيلها نتيجة الديمقراطية كما توهموا، ولو كان ذلك لرأينا تلك الحقوق في أكثر من مائة وسبعين دولة تُطَبِّقُ جميعُها النظام الانتخابي، ومع ذلك فلا تكاد تجد في هذا العدد من الدول سوى القليل ممن تعد «دول حقوق»؛ بل لا تجد فيها إلا القليل من الدول التي نجحت الانتخابات فيها في القضاء على الاستبداد، وإنما الذي نراه في أكثر دول العالم ذات النُّظُمِ الانتخابية أن الطبقة الحاكمة استطاعت أن تجعل من الانتخابات داعمًا ومُشرِّعًا للاستبداد. إذن، فهناك أسباب غير الديمقراطية أدت إلى نجاح النظام الانتخابي في تحقيق أهدافه بدول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وليست الديمقراطية هي السبب كما يتوهم أولئك، ويحاولون بكل ما يُطيقون إقناع الشعوب به، حتى يستفزونها نحو الثورات. وأنا على قناعة أن سبب نجاح الديمقراطية في القليل من دول العالم وفشلها في الغالب الأعم: قوة النفوذ الرأسمالي في الدول الناجحة، وضعفه في الدول الأكثر عددا، حيث إننا بالاستقراء نجد أن كل دولة طبقت الديمقراطية، ولم تنجح في تحقيق أهدافها، دولة تضعف القوة الرأسمالية فيها والعكس صحيح، مما يؤكد، وفق قاعدة الطرد والعكس المنطقية، أن النجاح الديمقراطي تابع للقوة الرأسمالية، وهذا يُفسِّر وبقوة عدم قدرة الديمقراطية على إلغاء الاستبداد في دول عريقة في العمل الانتخابي والتعدد الحزبي والنظام النقابي، وذلك لضعف النفوذ الرأسمالي فيها بالنسبة لعدد سكانها ومساحتها، وبذلك نصل إلى أن توافق الرأسماليين الكبار في بلد ما على أن الأجواء الديمقراطية أكثر خدمة لمصالحهم، وأقدر على تمكينهم من مفاصل الدولة، وأكثر حماية لهم من بأس بعضهم، ومن تسلط السياسيين والمشرعين والعسكريين عليهم هو السبب الرئيس في نجاح الديمقراطية في تلك البلد.

إذن، فالتعريف الواقعي للديمقراطية الناجحة هو أنها «التمكين للاستبداد الرأسمالي»، والديمقراطية الفاشلة هي التي لا يكون النفوذ الرأسمالي مسيرا لها؛ ففي بلاد الديمقراطية الفاشلة نجد كبار التجار وكبار الملاك في خدمة الطبقة السياسية أيا كانت، مدنية أم عسكرية، والعكس في بلاد الديمقراطية الناجحة، حيث نجد الطبقة السياسية والقيادات العسكرية في خدمة المتنفذين ماليا.

والرأسماليون في غرب أوروبا وشمال أمريكا - وهي البلاد التي قلنا إنها ناجحة ديمقراطيا - لا تضرهم حرية التعبير السياسي، ولا حرية العمل السياسي، ولا حرية الأديان، ولا حرية الأخلاق والآداب، وكثيرا ما كانت تلك الحريات تزيد من تمكينهم، إما لأنها تزيد أيضا من حرية الاستهلاك، أو لأنها تُقَوِي جبهتهم الشعبية في مواجهة أي تمرد عسكري أو سياسي يحاول سحب البساط من تحت أرجل الرأسماليين؛ ولهذا يقفون بأجمعهم ضد الحرية حين تتمادى إلى ما يضر مصالحهم، وإن كانت تعبيرا مشروعا وفق الأصول الديمقراطية، كما حصل في قمع مظاهرات «وول ستريت» 2011، التي تزامنت مع الثورات في البلاد العربية، ومظاهرات «ذوي السترات الصفراء» في فرنسا 2018 اللتين قمعتا دون نقد دولي.

فحدود الحرية والحقوق في الأنظمة الديمقراطية القليلة الناجحة هي الحدود التي تفرضها الرأسمالية، وليست الحدود التي تفرضها الأديان أو الأخلاق والقيم، أو حتى المصالح العامة للناس، وهذا هو أحد أهم ما أغفله أشد الإغفال دعاة الثورات من أجل الحرية في عالمنا العربي، وأخص الإسلاميين منهم الذين لم يتفكروا وهم يطالبون باستنساخ التجربة الثورية الأوروبية في مقدار ما دفعته الشعوب الأوروبية من دينها وأخلاقها وقيمها وموروثها الثقافي ثمنا لهذه الحقوق المزعومة التي ضمنتها الديمقراطية لهم؟!.

لقد دفعوا الشيء الكثير حتى فرطوا في فطرتهم الإنسانية وغيرتهم وعلاقاتهم الأسرية، وأصبحوا مجموعات بشرية كبيرة تائهة ساقطة في قيمها وأخلاقها وإيمانها، لا تعرف غير قيم السوق وافتراسه، وحتى الأخلاق الجميلة والمحدودة في التعامل، التي يبالغ كثيرون منا في تضخيمها؛ إما نتاج طبيعي للمدنية وإما ثمرة تأصل «الفلسفة النفعية» في ثقافتهم، وليس نتاج بواعث أخلاقية إنسانية حقيقية.

إنها شعوب مقهورة حقا، لكن قهرها قد يتغلف بالإغراق في الذاتية التي تجعل الإنسان منفصلًا عن كل مسؤولياته الاجتماعية، ولا يعتني سوى بنفسه، مما يجعل أعباء الحياة المادية يسيرة عليه، أو يتغلف بمزيد من الهروب من الواقع عبر الانهماك في العمل تارة وفي اللهو تارة أخرى.