تَتبعُ وقائع التاريخ المعاصر في مراحل التفكير لدى شباب مجتمعنا، ومعرفة كيفية تصوراتهم عن حقائق الأمور والأشياء في جميع مراحلهم العمرية، والوقوف عند نقاط التحول الفكري المؤثرة في انقلاباتهم الفكرية وتغيراتهم الذهنية ومعارضاتهم المجتمعية، يُعطي انطباعات تعكس النتائج الحقيقية لرسم كل توجهات المراحل المستقبلية، وإيجاد الحلول لكثير من التعثرات التي تبدو أنها تُشكل معضلة في مسيرة العمق الحقيقي لمجتمعاتنا. فمن خلال تلك العبارات يحدوني توق إلى التأمل فيما مضى من أحداث على كل شاب في مجتمعنا في مراحل تطوره الفكري، وعلاقة ذلك التطور بما وقع من أحداث، فمجتمعنا كان بسيطاً لم تتعقد فيه مراحل الفكر والتفكير مثلما كان في بعض الدول العربية وعلى سبيل التحديد مصر، فقد كانت مصر مكتظةً بكل التيارات الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى وقتنا المعاصر. كانت تلك التيارات تحمل توجهات فكرية لها مبادئ وأسس تعمل على الدعوة إليها. أما مجتمعنا فقد كان الشاب فيه ينشأ نشأة بسيطة بعيدة عن التعقيدات الفكرية والتجاذبات الحزبية والمنطلقات السياسية. تلك النشأة تمتزج بنزعة دينية سطحية في مفاهيمها، متأثرةً بمن يقود ممسكات التفكير المجتمعي وهم علماء التدين، وكان هذا التدين ينحو إلى التمسك بالظواهر في كل شؤونه وخصوصاً النصوص الدينية وما يتعلق بأمور الاعتقاد، وأن علماء الشريعة قسموا تقسيمات شتى لما يرد من نصوص شرعية، سواء أكانت في الفقه أم كانت في الاعتقاد أم كانت في التفسير أو الحديث أو أصول الفقه بل حتى النحو. كان التقسيم المتعارف عليه أن النصوص الشرعية أو الأحكام التكليفية تنقسم إلى قسمين رئيسين هما الأصول والفروع. اختلف الفقهاء والأصوليون في ضبط معايير الأصول والفروع. ضبط هذين الأمرين يترتب عليه أحكام كثيرة ومن أهمها قبول عذر المجتهد فيهما، وحكم الجهل بأحدهما، وهذه المتعلقات لها ارتباط وثيق بمسائل الحكم على المكلفين. كذلك المسائل والمفاهيم الشرعية تختلف أحكامهما وما يترتب عليهما باختلاف تكييفهما، فإذا ما جُعلت من الأصول فإنه يترتب على ذلك أحكام يُقررها الفقهاء، ومن أهمها عدم عذر المخالف في الأصول، وهذا كما يُقرره فريق من الفقهاء، لأن التقسيم إلى أصول وفروع قد اضطربت أقوال الفقهاء والأصوليين والمتكلمين في ضبطهما. في خضم تلك التجاذبات والمعارك الفكرية يخطو الشاب بمجتمعنا إلى هذه الدائرة، فيجد نفسه غير متمكن من فهم تلك التعقيدات والتقسيمات الفكرية، فيقع في حيرة شديدة قد لا يُبديها لأول وهلة، إلا أن تيار قيادة المجتمع يضع ذلك الشاب البسيط في تفكيره أمام تلك التجاذبات والمعارك الفكرية الكبيرة التي خاضها علماء وفقهاء وأصوليون ومتكلمون تمكنوا من علوم الشريعة واللغة والبلاغة وعلوم القرآن، فلا يجد ذلك الشاب القدرة والاستطاعة كي يستوعب أي فكرة بسيطة تقررت لدى علماء ذلك الفن. على سبيل المثال، المجاز اللغوي والمجاز العقلي ومدى ثبوته في النصوص الشرعية، بل إن بعض العلماء كان يُجادل في ثبوت المجاز في اللغة، فيُصدم ذلك الشاب المسكين بتلك المسألة الكبيرة التي لا يعي منها أي شيء إلا أنه سمع شيخاً أو عالماً من علماء قادة التيار الديني يُشكك في ثبوت ووجود المجاز في اللغة أصلاً، وهذه المسألة من أعظم المسائل التي كانت حاسمة لكثير من الإشكاليات الفكرية والاعتقادية، بل إنها كانت منطلقاً رئيساً لخلاف قديم بين قادة علماء الكلام من الأشعرية والمعتزلة والماتُريدية، وعلماء أهل الحديث، فقد كان التأسيس على اعتبار المجاز من عدمه هو الأمر الحاسم في كثير من المسائل، ومنها على سبيل المثال مسألة خلق القرآن ومسألة إثبات الصفات ونفيها، تأسيساً على تعظيم الخالق وتنزيهه، فكلا الفريقين المثبت لمسألة المجاز والمنكر لها، أسس قوله على القصد السالم من الشوائب، إلا أن كون وجود المجاز واستعماله في اللغة أمر لا يمكن إنكاره، بل إن أغلب علماء اللغة يجدون أن جمال اللغة في المجاز واستعمالاته المتنوعة، لذا فإن الخوض في هذه المسائل والنظر فيها من قبل الشاب البسيط في تعليمه وغير المتأسس على علوم الآلة، يكون أمام أمر جلل لا يفقهه ولا يمكنه أن يحتوي بعض معانيه، فيصبح هذا الشاب القاصد لأمور الخير عرضةً لأصحاب الفكر المتطرف. هذا الفكر عادة ينزع إلى التمسك بظواهر النصوص وتنزيلها بظواهرها على المجتمعات والأفراد، دون مراعاة لأصول اللغة العربية، ودون تحقيق لجماليات البلاغة وفنونها، فتجد أصحاب هذا الفكر المتطرف ينزعون إلى إنكار كل شيء ماعدا المنصوص عليه من الكتاب والسنة كما زعموا. وهم في حقيقتهم ينكرون كذلك نصوص الشريعة بما يرتكبونه من عدم إحاطتهم بعلوم اللغة وأصول الفقه والقواعد والمقاصد الشرعية، ذلك أن هذه الشريعة لا يمكن فهمها إلا بعد التأسيس اللغوي والنحوي والأصولي والفقهي. الأسس من تلك العلوم المتنوعة تحتاج إلى صبر وجلد وهذا لا يقدر عليه أصحاب الفكر المتطرف، أو ذلك الشاب البسيط الذي يتعرض لتلك المسائل العظام، والذي لتوه قرأ شيئاً من بعض المسائل المشتهرة، والتي فيها مفاصلة للمجتمعات مثل مسألة تكفير المعين وخلق القرآن وقتال الطائفة الممتنعة والعذر بالجهل، وحتى هذه المسائل لا يكاد أن يكون قد فهمها فهماً حقيقياً، لأنها تحتاج إلى علوم شتى حتى يذهب طالب العلم مذهباً أو يتبنى فيها قولاً من أقوال الفقهاء. ومن أعظم هذه المسائل التي كنتُ شاهداً على حدة الحوار والمناظرة فيها، مسألة خلق القرآن الذي بين أيدينا، وهل ما في المصحف هو كلام مخلوق أم غير مخلوق، وقد كان القول السائد في مجتمعنا أن القرآن غير مخلوق، بل إن كثيراً من فقهاء مجتمعنا يذهبون إلى القول المشهور الذي ورد في كثير من كتب الاعتقاد بأن من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر ومن شك في كفره فهو كافر. هذه القاعدة قررها كثير من علماء أهل الحديث المتقدمين والمتأخرين، ومنهم على سبيل المثال ابن أبي حاتم في عقيدته، فقول أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء، وهو الأمر الذي تنكره البداهة والعقل والقرآن نفسه. وهذا قول مشكل كثيراً بل إنه يُفرق بين المجتمعات، ويجعل غير طالب العلم يُشكك في كل شيء، ذلك أن المصحف الذي بين أيدينا مكون من ورق ومكتوب بقلم مخلوق، علماً بأن عالماً من علماء هذا العصر من أبناء جلدتنا قد خالف في المسألة المشهور المعمول به في مجتمعنا، وهو القول بالتوقف في مسألة خلق القرآن وهو الشيخ المفسر أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري.

كانت هذه المسألة تؤرقني كثيراً، بحثتها منذ أن وضعتُ قدمي في عالم المعرفة وطلب العلم ولا أزال أبحثها وأقتني كل مؤلف كتب فيها، وأتتبع كل كتاب ذكرها أو تعرض لها، فلم أجد من تعرض لإشكاليات القول بعدم خلق القرآن إلا قولاً للشيخ محمد عبده رحمة الله عليه في رسالة التوحيد، حيث يقول (والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها)، وهذا يُحتم على الباحث إبراز إشكالية الإمكان الذهني والوقوع الفعلي، فكثير من مسائل أهل العلم الاعتقادية كانت تنطلق من إشكالية التصور الذهني والعقلي، وإمكانية أي مسألة في الذهن، إلا أن الواقع يأبي إثباتها أو يُقرر إنكارها لما يترتب على ثبوتها وتبنيها من إشكاليات كبيرة ومعقدة، على تنزيل ما يتصور في الذهن على الواقع. هذه الإشكالية وأعني بها تنزيل ما يحيط به التصور الذهني أو ما يدركه في التصور الذهني على الواقع الوجودي، هي مفتاح الحل لكثير من التعقيدات الكلامية، وهي حل لفهم كثير من كتب المتكلمين وخصوصاً ما تم تأليفه في الاعتقاد لدى المدارس الأشعرية والماتريدية. تلك الإشكاليات الكلامية كانت محل صراع داخلي وخارجي لدى كل طالب علم عاصر الصحوة المشؤومة. ولك أن تتصور كيف تكون تلك النفس البشرية التي كانت تحمل في دواخلها تلك الصراعات التي لم تكن ضرورية كي يتعرض لها شباب مجتمعنا، بل إنها كانت صراعات أججت أفكاراً خطيرة، ارتكبت القتل والتفجير والتدمير، كل ذلك بسبب اندفاع قادة الصحوة للزج بشبابنا في أتون الخلافات العقدية المتخصصة التي لا يمكن أن يُحيط بها أو يفهمها حق الفهم طالب العلم في مجتمعنا السهل.